mercredi 29 mars 2017

النوميديين‏

يطلق اللاتين عبارة النوميديين‏ (132) على كل القبائل الخمس التي سبق لنا الكلام عنها، و أقصد بذلك زناقة و الونزيقة و الطوارق و لمتونة و بردوه. و يعيشون جميعا على أسلوب واحد، بدون أية قاعدة و بدون أي تعقل‏ (133). و يتألف كساؤهم من «فوطة» ضيقة من صوف خشن. و يضع كل واحد فوق رأسه قطعة قماش سوداء ملفوفة حول‏ وجهه كالعمامة. أما الوجهاء و الشخصيات الهامة فيضعون قميصا كبيرا ذا أكمام عريضة، من قماش القطن الأزرق الذي يشترونه من تجار قادمين من السودان، و ذلك لكي يتميزوا عن الآخرين. و لا يركبون سوى الإبل و يستخدمون لهذا سرجا يضعونه بين السنام و بين عنق الحيوان‏ (134) و إنه لمنظر جميل أن يرى الإنسان هؤلاء الناس راكبين جمالهم. و أحيانا يضعون ساقا فوق ساق على عنق الجمل، و أحيانا أخرى يضعون أقدامهم في سيور مربوطة بالسرج بدون ركابات‏ (135) و يستخدمون سهما مربعا من الحديد مثبتا في نهاية عصا طولها ذراع‏ (136) و لكنهم لا يوخزون بها الحيوانات إلا في اكتافها. و لإبل الركوب، أي الهجن، منخار مثقوب، على طريقة بعض الجواميس التي ترى في إيطاليا و يمرر في هذا الثقب شريط من الجلد يمكن بواسطته تدوير الجمل أو توجيهه كما يقاد الجواد باللجام. و يستعمل هؤلاء الناس لنومهم حصرا من خيزران ناعمة جدا. و يصنعون خيامهم من وبر الجمل و من ألياف خشنة تنمو بين براعم النخيل العليا (137). أما غذاؤهم فلا يستطيع من لم يرهم أن يتصور مدى صبرهم على تحمل الجوع. فليس من عادتهم أكل الخبز أو أية وجبة مجهزة، إذ يتغذون بحليب نوقهم. و العادة أن يشربوا صباحا صحفة كبيرة من الحليب الحار بمجرد خروجه من الضرع. أما في المساء فيتألف عشاؤهم من لحم مقدد مغلي في الحليب مع السمن. و عندما ينضج اللحم يتناول كل واحد نصيبه باليد.
و بعد أن يأكل قطعة يشرب المرق مستخدما يده ملعقة. و بعد ذلك يرشف صحفة من الحليب و تنتهي الوجبة. و عندما يكون الحليب متوافرا لديهم لا يهتمون مطلقا بالماء، و لا سيما في الربيع، و هي الفترة التي لا يغسل فيها بعضهم يده و لا وجهه بالماء. و ذلك لأنهم في هذا الفصل لا يقصدون مناطق تتوافر فيها المياه، و هم ينزلون في هذه المناطق لتوافر الحليب عندهم من جهة، و لأن الإبل من جهة أخرى لا تحتاج في هذا الفصل إلى الماء لأنها تأكل حينئذ العشب الأخضر (138)
و تجري حياة هؤلاء البدو في الصيد أو في سرقة إبل أعدائهم. و لا يتوقفون في أي مكان أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام، أي في أثناء الوقت الكافي لكي ترعى إبلهم العشب الذي تجده هناك.
و مع أننا ذكرنا أن هؤلاء لا يخضعون لنظام و لا قانون، فإن لكل من هذه الأقوام أميرها، و هو ملك يدينون له بالطاعة المطلقة و يؤدون له واجب الاحترام‏ (139).
و هؤلاء أناس جهلة تماما لا يعرفون شيئا، فهم لا يجهلون الآداب فحسب، بل يجهلون كذلك الفنون و سائر المعارف الأخرى. و من الصعوبة بمكان أن يعثر الإنسان في العشيرة كلها على حاكم يكون مؤهلا للفصل في نزاع، حتى إن أحدهم لو تورط في دعوى أو كان ضحية أذى ما فإنه يكون مضطرا أن يمضي ستة أيام على الطريق فوق جمله كي يصل إلى خيمة القاضي. و يتأتى هذا الجهل عن أن هؤلاء الرجال لا يخصصون أي وقت للدراسات و لا يحبون الخروج من صحاريهم كي يتثقفوا. و لا يأتي القضاة إلا مكرهين عند هؤلاء الأوشاب، و هم لا يستطيعون تحمل عاداتهم و نمط حياتهم. أما أولئك الذين يأتون إليهم راغبين فيتقاضون أجرا عاليا جدا، إذ ينال كل واحد منهم ألفي دينار (140) فى العام أو أكثر أو أقل حسب تفاوت كفاءته.
و يلبس أشراف هؤلاء الرعاع فوق رؤوسهم، كما قلت، لثاما أسود يغطون وجوههم كلها بقسم منه حتى لا تظهر من خلاله سوى عيونهم، و يحافظون على هذا الوضع حتى عندما يريدون تناول طعامهم. ففي كل مرة يتناولون فيها لقمة يكشفون عن فمهم ثم يسترونه في الحال. و يقدمون لتبرير هذه العادة الزعم التالي: كما أن من العيب بالنسبة للرجل أن يرى و هو يطرد غذاءه بعد هضمه، و كذلك من المعيب أن يرى‏ 
و هو يدخل الغذاء إلى جوفه‏ (141).
و تتميز نساؤهم ببدانة شديدة و بالسمنة، و لكنهن غير بيضاوات كثيرا. و لهن كفل ناهد و سمين و الثديان كذلك، و لكن قوامهن دقيق للغاية (142)، و هن سيدات لطيفات جدا.
و عند الحديث يمددن إليك أيديهن عن طيب خاطر. و يندفعن في الملاطفة أحيانا حتى السماح بتقبيلهن، و لكن سيكون من الخطورة بمكان التمادي أكثر من ذلك، لأن الرجال يقتتلون بلا رحمة مدفوعين بأسباب من هذا القبيل. و حول هذا الموضوع يظهرون أكثر تعقلا من بعض الناس منا. و هم يعزفون كل العزوف عن أن تظهر لهم قرون‏ (143). و هو شعب مضياف جدا. و لا يستطيع إنسان أن يمر في مخيماتهم بسبب جفاف بقاعهم، و لأنهم يتحاشون الطرق الرئيسية. و لكن القوافل التي تخترق صحاريهم مضطرة لدفع رسوم لأمرائهم، و هي عبارة عن قطعة قماش، تبلغ قيمتها دينارا واحد عن كل حمل جمل‏ (144).
و قد مررت من هناك قبل بضعة أعوام ضمن قافلة مع مسافرين آخرين‏ (145)، و عندما بلغنا سهل أروان، قدم أمير زناقه لملاقاتنا مصحوبا بخمسمائة رجل، و كلهم على‏ 
متن الهجن، و بعد أن استلم منا العوائد دعا كل القافلة لمرافقته حتى خيامه و البقاء فيها مدة ثلاثة أيام كي تستريح. و لما كان مخيمه على مسافة ثمانين ميلا (146) خارج طريقنا، و لما كانت جمالنا مثقلة بالأحمال، لم يرغب التجار في قبول دعوته كيلا يطيلوا الطريق، و لكن نظرا لإصرار الأمير على استضافتنا فقد تقرر أن يتابع الجمالة سفرهم مع حيواناتهم و أن يذهب التجار معه. و ما إن بلغنا المخيم حتى أمر هذا الرجل الكريم بنحر بضعة جمال، بين كبير و صغير، و نفس العدد من الخراف و بعض طير النعام التي اقتنصها في أثناء الطريق. و ذكر التجار للأمير بأنه لا داعي لذبح جمال، إذ ليس من عادتهم أن يأكلوا غير لحم الخراف. فأجابهم بأن عادتهم لا ترى من المناسب الاكتفاء بذبح صغار الماشية في وليمة، و لا سيما بالنسبة لنا باعتبارنا غرباء، فضلا عن أننا نزلنا في مخيمه. و هكذا أكلنا ما قدم لنا. و لكن الطعام الرئيسي في هذه الوليمة كان يتألف من لحوم مشوية و مسلوقة.
و كان اللحم المقدم على المائدة يتألف من شرائح متبلة بالأعشاب و بكمية طيبة من توابل بلاد السودان. و كان الخبز مصنوعا من دقيق غاية في النعومة من الذرة البيضاء و الدخن.
و في نهاية الطعام قدمت لنا التمور بكثرة مع آنية كبيرة مليئة بالحليب. و رغب الأمير كثيرا في أن يشرف الوليمة بحضوره مع طائفة من سراة القوم من حاشيته و بعض أقاربه، و لكنهم أكلوا على حدة. و استقدم بعض الفقهاء و الأدباء الذين كانوا هناك و أجلسهم بجواره. و لم يمس أي نوميدي الخبز في أثناء الطعام، إذ لم يتناولوا سوى اللحم و الحليب.
و عند ما لاحظ الأمير علينا الدهشة و الاستغراب الشديد، راح يشرح لنا ذلك بكل ملاطفة قائلا: «إنه ولد في هذه الصحاري حيث لا ينبت أي نوع من الحبوب، و أن الناس كانوا يتغذون بما تنتجه أرضهم. و قال لنا إنه يمتار كل سنة كمية من الحبوب كي يكرم الغرباء الذين يمرون ببلاده. غير أنه من الصحيح القول إن من عادتهم أكل الخبز في أيام بعض الأعياد الكبرى كعيد الفطر و عيد الأضحى‏ (147).
و بعد أن أمسك بنا الأمير لمدة يومين في مخيمه و أحاطنا دوما بالكثير من الرعاية و عاملنا بإكرام و حفاوة، سمح لنا بالذهاب في اليوم الثالث. و أراد أن يرافقنا شخصيا حتى القافلة. و سأقول لكم إن الحقيقة هي أن ثمن الحيوانات التي نحرها لإطعامنا كان‏ 
يساوي عشرة أضعاف ما دفعناه له رسم مرور. و قد كان هذا الأمير نبيلا و بشوشا في تصرفه و في حديثه. و نظرا لعدم فهمه لساننا، و عدم فهمنا لغته، فقد كان من اللازم أن يكون بيننا ترجمان. و هذا النمط من المعيشة و العادات التي وصفناها لدى هؤلاء القوم مطابق لما تسير عليه القبائل الأربع الأخرى المبعثرة في صحاري نوميديا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire