قال ابو عثمان:
وكان كثير الاعتراض، لهجا بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبة، متتايعا في العنود، مؤثرا للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء [ومحنة] فساد القلوب ونكد الخلاف، وما في الخوف من اللغو الداعي إلى السهو، وما في المعاندة من الاثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في المغالبة من فقدان الصواب. وكان قليل السماع غمرا وصحفيا غفلا لا ينطق عن فكر ويثق بأول خاطر ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق. يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الإنتحال لاسم الأدب.
فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والبادي وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. كأنه لم يسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب بن صيفي: «هذا شريكي الذي لا يشاري ولا يماري» . ولا بقول عثمان: إذا كان لك صديق فلا تماره ولا تشاره، ولا بقول ابن أبي ليلى: لا أماري أخي إما أن أكذبه وإما أن أغضبه. ولا بقول ابن عمر: لا يصيب الرجل حقيقة الايمان حتى يترك المراء وهو محق. وكأنه لم يسمع بقول الشاعر:
خلافا علينا من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم خالف فتذكرا
ولم يسمع بقول الأول: رآه معدّا للخلاف. ألبيت. ولا بقول الآخر:
لنا حاجب مولع بالخلاف ... كثير المراء قليل الصّواب
ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
وقالوا: فلان أخلف من بول الجمل. ولذلك قال الشاعر:
واخلف من بول البعير فإنّه ... إذا قيل للاقبال أقبل أدبرا
قال رجل لزهير البابي: أين نبت المراء؟ قال: عند أصحاب الأهواء.
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وكان عمر بن هبيرة يقول: أللهم إني أعوذ بك من المراء وقلة خيره، ومن اللجاج وتندم أهله. وقال بعض المذكورين: أللهم إنا نعوذ بك من المراء وقلة خيره وسوء أثره على أهله، فانه يهلك المروءة ويذهب المحبة ويفسد الصداقة ويورث القسوة ويضرّي على القحة، حتى يصير الموجز خطلا والحليم نزقا والمتوقي خبوطا، والصدوق كذوبا. والمراء من أسباب النضب، وأقرب ما يكون الرجل من غضب الله إذا غضب كما أنه أقرب ما يكون من رحمة الله إذا سجد. لقول الله عز وجل: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
وقال لقمان لابنه: إياك والمراء فإنه لا تعقل حكمته ولا تؤمن لهجته.
وقال آخر: ألمراء غضبة والصمت حكمة، ولو كان المراء فحلا والفخر أما ما ألقحا إلا الشر. وقال الشعبي: إني لاستحيي من الحق أن أعرفه ثم لا أرجع إليه. وقال ابن عيينة قال الحسن: ما رأيت فقيها قط يداري ولا يماري، إنما ينشر حكمته فان قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله. عن ابراهيم بن إسماعيل بن عائذ بن المبارك بن سعيد قال: قال مجاهد: صحبت رجلا من قريش ونحن نريد الحج فقلت له يوما: هلم نتفاتح الرأي؟ فقال: دع الود كما هو. فعلمت والله أن القرشي قد غلبني. وقال إسحاق الموصلي: كثرة الخلاف حرب، وكثرة المتابعة غش.
إعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة، كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي والبخل اسم لما قصر عن الإقتصاد، والسّرف ما جاوز الجود. وأنت جعلت فداك لا تعرف هذا ولو أدخلتك الكير ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور. وهل في الأرض إقرار أثبت أو دليل أوضح أو شاهد أصدق من شاهدي على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الضعة؟ وهل تكون بعد ذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود أو جاهلا بالمحال..!؟
وبعد فأنت أبقاك الله في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني. وهو قياسك الذي إليه تنسب ومذهبك الذي إليه تذهب، أن تقول: وما عليّ أن يراني الناس عريضا وأكون في حكمهم غليظا وأنا عند الله طويل جميل وفي الحقيقة مقدود رشيق! فقد علموا حفظك الله أن لك مع طول الباد راكبا طول الظهر جالسا، ولكن بينهم فيك اذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل. ومن غريب ما أعطيت وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقا مستفي الخاصرة سواك! فأنت المديد، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب.
فيا شعرا جمع الأعاريض ويا شخصا جمع الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضا قد استغرق ما ذهب منك طولا. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإذ قد سلّموا لك بالرغم شطرا ومنعوك بالظلم شطرا فقد حصلت ما سلّموا وأنت على دعواك فيما لم يسلّموا. ولعمري إن العيون لتخطيء، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة الا للعقل إذ كان زماما على الأعضاء وعيارا على الحواس. ومما يثبت أيضا أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي دواد الإيادي في إبله:
سمنت واستحشّ أكرعها ... لا النّيّ نيّ ولا السّنام سنام
وقول رافع بن هريم:
أدقّ شواها عند بهرة جوفها ... سنام كقصر الهاجريّ مقرمد
ولو لم يكن من العجب إلا أنك أول من تعبده الله تعالى بالصبر على خطأ الحس وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك منارا للضالين: وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد ومن القصير مثل أحمد إذ زعم محمد أنه إنما أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضافة لأن إفراط طوله غمر الإعتدال من عرضه. وزعم أحمد أنه إنما أفرط في العرض ونسب إلى الغلظ لأن افراط عرضه غمر الإعتدال من طوله. وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتلال. والمربوع بحمد الله قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر! فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال. وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدا ذم المربوع ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه، ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال، ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد، ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند، ومن يماري في العيان إلا الجاهل! بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله جل ثناؤه «ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت» .
وبعد، فأي قدّ أردى وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر وطول مجاوز للقصد؟ ومتى لم يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسد من التقدير وجاوز التعديل. وإذا خرج من التقدير تفاسد، وإذا جاوز التعديل تباين! ولئن جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لقاسم التّمّار من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.
وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت لعرضك في الحكومة. على أنك باعتلالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان متعرض للصدق من المتكرم ومتحكك بالحكم من المتغافل! وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب، وأي ناطق لا يغريه هذا القول! وإذا كان هذا ناقضا لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف! فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء أو تنقض عزائم الحلماء! وما أدري حفظك الله في أي الأمرين أنت أعظم إثما، وفي أيهما أنت أفحش ظلما، أبتعرضك للعوام، أم بافسادك حكم الخواص.
وبعد، فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثير، ومن ينصرك منهم غير قليل. وقد رأيتك زمانا تحتج بالنعمان بن المنذر، وبضمرة بن ضمرة، وبمجّاعة بن مرارة وبمجّاعة بن سعر، وبأوفى بن زرارة، وبعبد الله بن الجارود، وبعلباء بن الهيثم، وبسعيد بن قيس، وبأبي اليسر كعب بن عمرو، وبحسكة بن عتّاب، وبمخارق بن غفار، وبعمران بن حطّان، وبيوسف بن عمر، وباياس بن معاوية، وبمعن بن زائدة، وبعقبة بن سلم، وبرجال ناهيك بهم رجالا وبأعلام كفاك بهم أعلاما.
ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشدة والصلابة فقصار كل شيء أشد ضررا وأدق مدخلا وأظهر قوة وجلدا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وكالبعوض أضرها القرقس وكالعقارب أقتلها الجرارات وكذلك أحرار الطير وبغاثها وصغار البراغيث وكبارها.
وقلت: إن كان الفضل في العدد فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومنا الدعاميص والبعوض، ومنا الرمل والتراب وقطر السحاب.
واحتججت بأن الحسن والفضل لصغار ما في الأنسان كالناظرين والانثيين وحبة القلب وأم الدماغ. وزعمت أن الإنسان إذا طال جسمه وامتد شخصه أسرع الإنهدام إلى بدنه والإنحناء إلى ظهره، وأن القصير لا يتقوس ظهره ولا يميل عنقه ولا يضطرب شخصه ولا تعوج عظامه، ويسعه كل باب ويقطعه كل ثوب ولا تخرج رجلاه من النعش ولا تفضلا عن الفراش، وهو بعد أخف على القلوب وأخلط بالنفوس وأبعد من السماجة وأدخل في كل باب ملاحة.
وقلت: وتقول الناس: ما هو إلا فلفلة، وما هو إلا زنبقة، وما هو إلا شرارة، وما لسانه إلا لسان ضبة. ولم أزل أراك تقدم العرض على الطول وتزعم أن الأرض لم توصف بالعرض دون الطول إلا لفضيلة العرض على الطول. وذلك كقول الشعراء ووصف العلماء، وقال الشاعر:
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل
ولم يقل: كأن بلاد الله وهي طويلة. وقال آخر:
وفي الأرض للمرء العريضة مذهب ولم يقل: الطويلة. وقال:
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... على الأرض ذات العرض أن توسعا
وقال الراجز:
تقطع أرضا وتلاقي أرضا ... إنّ البلاد غلبتني عرضا
ولم يقل: طولا. وقلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول جل ثناؤه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
. فهذه براهينك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى أن ما عند الله خير لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا أبقاك الله أتعشق إنصافك كما أتعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين، ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين، وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الإختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم، إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار، وأشد ما تكون إلى الحيلة فقرا أشد ما تكون للحجة طلبا، إلا أن ذلك بطرف ساكن وصوت خافض وقلب جامع وجأش رابط وبنية حسنة وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم! إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشعب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب، تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتخلص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حقه من المعنى، وتحب المعنى إذا كان حيا يلوح وظاهرا يصيح، وتبغضه إذا كان مستهلكا بالتعقيد ومستورا بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما أغرق المعاني وأخفاها وأسرها وعمّاها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض. واعجب الألفاظ عندك مارق وعذب وخف وسهل وكان موقوفا على معناه ومقصورا عليه دون ما سواه، لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤونة واستغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقا وبالمجاذبة موادعة، وتهنؤوا بالعلم وتشفوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذل المخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان. فقد قالوا. وكأنه المشتري، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث وكأنه الشمس، وكأنها دارة قمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة. فقد تراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل:
وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فان التدوير عليه أغلب، لأن التدوير قائم فيه موصولا ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولا. وكذلك الانسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أكره على تركيبه دون ما (خلي وسوم طبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور.
فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم انك طويل في الحقيقة ثم تحتج للإستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحا، ولهجت بما عند الناس. فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه، إلى ما أبانك الله به من الشكلة فانها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام. وقال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطّير شكل عيونها
وقال آخر:
وشكلة سين لو حبيت ببعضها ... لكنت مكان النّجم مرأى ومسمعا
فأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطبع وفهم المشكل قبل التأمل، مع وهن الكبر وتقادم الميلاد، ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان، فمن توتياء الهند وترك الجماع، ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة. فأنت يا عم حين تصلح ما أفسد الدهر وتسترجع ما أخذت منك الأيام، لكما قال الشاعر:
عجوز ترجّى أن تكون فتيّة ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدسّ إلى العطّار ميرة أهلها ... وهل يصلح العطّار ما أفسد الدّهر
ولا بد يرحمك الله لمن فاته الطول من أن يلقي بيده أو من أن يقول بخلاف ما يجد في نفسه. فو الله إنك لجيد الهامة، وفي ذلك خلف من حسن القامة، وإنك لحسن الحظ، وفي ذلك عوض من حسن اللفظ، وإنك لقليل الشيب قليل البول، وإنك لتجد مقالا، وإنك لتعد خصالا. فقل معروفا فإنا من أعوانك، وأقتصد فإنا من أنصارك، وهات فانك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت. ولكنك تجيء بشيء: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
ولو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك، ولربما عذرتك ولان جانبي لك فأقول:
خرف الشيخ إذا كان جادا، وعبث إن كان هازلا. وقد يعجل الخرف إلى أحدث منك سنا ويبطيء عن أطول منك عمرا. بل من هذا الذي يعد من السنين ما تعد وبلغ من الكبر ما بلغت؟ وعند من يدرك هذا العلم إلا عند النجوم أو عند إبليس الرجيم، بل من يعرف ذلك إلا فاطر السموات والأرض. لو عرفت عقبان خطفة ونسور السراة وأحناش الرمل وعير العانة وورشان الغابة وشيوخ اليمامة وهرمي فرغانة، إنك لا تعد عمر نوح عمرا ولا النجوم يوما، وإنك قد فت التاريخات وجزت حساب الباورات واستقللت الأحقاب وخرجت من خطوط الهند لما استطالت بأعمارها ولا فرحت بطول أيامها! فيا قعيد الفلك كيف أمسيت، ويا قوة الهيولى كيف أصبحت، ويا نسر لقمان كيف ظهرت، ويا أقدم من دوس ويا أسن من لبد ويا صفي المشقر ويا صاحب المسند.
وخبرني عن الأمة التي مسخت ثم فقدت، ممن كانت وإلى أي شيء صارت! أأخذت برا أم بحرا؟ فإن كانت بحريّة أفهي الجرّيّ، وإن كانت برية أفهي الضباب؟ وما آوى، وما حبين، وما عرس، وما أوبر، وما وردان، وما قصة الطراثيث، وما سبب كون السنانير، وما علة خلق الخنزير، وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء؟ وكيف لم يقتل الأفعى سمها، وكيف لم يحرق الشمس ما عند قرصها.
وخبرني عن الأبدال، أهم اليوم بالعرج أم ببيسان أم كما كانوا متفرقين، وخبرني أكلهم موال أم كلهم عرب أم هم أخلاط، وما فعل صاحب إنطاكية ولم أقيم سلمان بعد بلال، ومن جعل بعد سلمان، ومن عشائرهم وأين دورهم وأين أهلوهم، وكيف لم يتقدموهم ويتفقدوهم، وكيف صارت بيسان لسان الأرض يوم القيامة! وكيف صارت كبد الحوت أول طعام أهل الجنة، ولم تسمى نونا، وهل الرجفة من حركته، وهل الزلزلة من تنقله، وما الخسف، وكيف شاهدت المسخ على طول الأيام، أنقلبت خلقتهم أم صار ذلك ضربة واحدة، وهل عاشوا أم أبلسوا أم تركوا ثلاثا ثم أبطلوا، وهل كانوا يتعارفون بعد المسخ ويعرفون بعض ما قد نزل بهم بعد القلب.
وخبرني عن بحار بنطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن المظلم، وعن جبل الماس، وعن الباكي، وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف، ومذ كم كان زمن الفطحل، وأين كان ملك الأزد، وأين كان من ملك الإشكان، وأين كان من ملك بني ساسان، وأين كان خره أردشير من استاشف، وأين كان أبرويز من أنو شروان، وأين جذيمة من تبّع، وأين الفتجب من بلهره، وأين بغبور من قيصر. وخبرني عن الفراعنة، أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة أهم من قوم عاد. وخبرني أهم من عاد الأولى أو من عاد الأخرى؟ وخبرني عن عطارد الهندي وجوابه لعطارد السماوي حين هبط إليه من فلكه، وهل جرى بينهما إلا ما سمعنا ومذ كم كان ذلك.
وخبرني: كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أفرغ في إنائه، أكان بحرا أجاجا استحال عذبا زلالا، أم كان زلالا عذبا استحال أجاجا بحرا؟
خبرني: كيف صار الماء أبعد من الفلك ولا يكون إلا في بطن الأرض، وهو أشبه بالهواء كما أن الهواء أشبه بالنار، وكيف يكون أحق بالوسط والأرض أبعد من سية الفلك، وكيف طمع جعلت فداك الدهري في مسألة العلاة والمطرقة وفي البيضة والدجاجة، مع تقادم ميلادك ومرور الأشياء على بدنك، وكيف كان بدء أمر البدّ في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم، وقصة عمرو بن لحى في العرب.
وخبرني عن عناق بنت آدم، وعن ميسرة ومسرة، وعن مهنه ومهنينة، وعن بهيا وطبحيا، ومذ كم عمرت جزيرة العرب، ومذ كم بادت يونان، وعن فصل ما بين السند والهند، والهند والميد، وعن جميع من هلك بالرّعاف، وعن من أفناهم النمل، وعن من أجحف بهم السيل، وعن أصحاب النعمان كم صنفهم، وما تقول في الرجم السماوي أكان من عظام البرد أم كحجارة الطير الأبابيل التي خلقت من سجيل؟
وخبرني عن بناء سور الأبلة وعمن حير الحيرة، ومن أنشأ بنيان مصر، ومن صاحب كربنداذ ومدينة سمرقند. وخبرني: عن البناء الذي يضاف بالمدائن إلى سام، أهو لسام؟ وعن تدمر أهو لسليمان! وأين ملك أخاذ بن عمري من ملك نمرود الخاطيء، وأين وقع ملك ذي القرنين من ملك سليمان.
وقد كنت أطال الله بقاءك في الطول زاهدا وعن القصر راغبا، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبا للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا جعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان، والضبّاب، وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله، فإن كان هذا الأمر حقا وكان هذا العلاج نافعا وكنت له مستعملا وفيه متقدما وتراه رأيا وإن كنت عنه غنيا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأذن وأذنك أذن أبي سهيل، وأنا دقيق العنق وعنقك عنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت، وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض..!؟
جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يحدث لهما الجدّة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما وعمر طول عمرك أعمارهما ذلا بعد العز وهانا بعد الكرامة، ومالي فيك قول إلا قول الاعرابي حين ضل الطريق في الظلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جملك الله وقد جملك، أم أقول عمرك الله وقد عمرك؟ .. ولكن أقول:
وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعا، وأقول ما قلت إلا لغوا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يساكن الانسان في منزله وربعه وفي داره وموضع منقلبه إلا والانسان يفضله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والابل. وزعموا أن أقصرها أعمارا العصافير، وأن أطولها أعمارا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السفاد، وفي قصر عمر العصافير كثرة السفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويثبت هذه القضية ما يعم الخصيان من طول العمر، ويعم الفحولة من قصر العمر. وما أرى حفظك الله بهذا القياس بأسا في ظاهر الرأي وما أجده بعيدا في أغلب الظن، ولو كنت أقتل ذلك علما وأعلمه يقينا لكان أحب الأمور إلى أن يكون لي فيه سلف صدق وإمام لا يغلط، وأن أحكيه عن معدل وأسنده إلى مقنع! فقل نسمع وأشر نتبع! يعجبني- جعلت فداك- منك بغض الشهرة ودبيبك في غمار الحشوية استغناء بنفسك، وصونا لقدرك، ومعرفة بما أعطيت، وثقة بالذي أوتيت. وما أقل بحمد الله ما سبقك به إبليس، وما أيسر ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمة وناصرك عزة. وقد ذكرت الرواة في المعمرين وصنعت في ذلك أخبارا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة، ولا نقدر على ردها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النصب، وما في النصب من طول الفكرة وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكد. فافتح لبيتك بابا نسترح إليه، وأقم له علما نقف عنده. فقد علمت ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودويد بن نهد. وأنت أبقاك الله تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبرني أكذبوا أم صدقوا، أم اقتصدوا أم أسرفوا.
فأما ما رووا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسام عاد، فالشاهد على كذبهم حاضر، والدليل على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزجّة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضيق أوابهم وقصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العدمليّة، ويدل على ذلك الجرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رؤوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذا لما عنيناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادم ميلادهم وحدة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.
قد والله عافانا الله بك وابتلى، وأنعم بك وانتقم، فدحّا لمن زهد فيك وسقيا لمن رغب إليك وويل لمن جهل فضلك، بل الويل لمن أنكر فضلك.
إنك جعلت فداك كما لم تكن فكنت فكذا لا تكون بعد أن كنت، وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل، إذ كل طويل فهو قصير، وكل متناه فهو قليل، فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك، فان للشيطان في مثلك أطماعا لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك.
ولست جعلت فداك كابليس وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخمر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك، ولما ناقلته الكلام كما قلتي لك، وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك، ولأنك إن منعت شيئا فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والإرصاد، وأنت على حال أشكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين.
وخبرني ما السحر وما الطلسم، وما الدنهش وما الخلقطير، وما الهيكل، وما الطوالق، وما قولهم في اللبان الذكر، وفي مراعاة المشتري، ولم توحشوا من الناس ولم باتوا بالبراح وأقاموا بالخراب واغتسلوا بالماء القراح، ولم قدموا التصديق وأخرجوا الصرة، ولم أجابوا وأكرموا، ولم منعوا وقتلوا.!؟
ولم أسألك عن الحداد وإنما سألتك عن الفيلسوف وعن علته في المد والجزر.
وخبرني عن جوهر الأرض وعن جميع الفلز أشيء مفروغ من خلقه أم أرض يستحيل إليه، ولم عمل بعض السم في العصب وبعضه في الدم وبعضه فيهما جميعا، ولم كان بعضه سم نجاز وبعضه سم جهاز، ولم صار لا يقتل مع العادة وقتل قبل العادة، ألأنّ الطبائع تنكر الشيء الغريب أم لأنه ضد في نفسه، وكيف صار مع ريق الأفعى ريق بعض الناس في القتل وفي أيهما سم، ولم خالف البيش في العصب والدم، ولم يقتل العقرب إنسانا ويقتله آخر، ولم صارت الأفعى قاتلة وتأكلها القنافذ ولا تضرها وتأكلها الأروى فلا تتأذى بها، ولم صارت الهندية تقتل كل شيء ولا يقتلها شيء ولا يستمرئها شيء، ولم خالف النيل جميع الأودية في النقصان والزيادة، ولم بلغت جريته الشمال، ولم صار أقصاه كأدناه، ومتى يدال منه ومتى يحوله الامام..!؟
وقد علمت جعلت فداك أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس علة في نشره وكان في الدلالة على الحق كالعيان وفي الشفاه كالسماع، على أن الخبر لا يعرف به تكيف الأمور لكن يعرف به جمل الأشياء إلا خبرك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى اعادة ولا إلى [علة ولا إلى] تفسير حتى يقوم خبرك في الشفاه وفي كيفية الشيء مقام العيان. وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما تقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومته وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل، أو كنت لم أقل كذا كان أمثل، فما بال عفوه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله على كل رفيع، ورحمة أنشأها لكل وضيع.
وقال معاوية: المزاح هو الشنار الأصغر. وقال الحسن بن حي: المزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى. وعاب عمر بعض العظماء فقال: ذلك رجل فيه دعابة. وقال الشاعر: «وجد القول يقدمه المزاح» وقال الآخر «رب كبير ساقة صغير» وقال الآخر «رب جد ساقه اللعب» .
فان كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية، فبما أعرف من يمن مكالمتك وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت قد أخطأت الطريق، وجاوزت حد المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع المتكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه، نعم ولو كان من العلماء الموصوفين والأدباء المذكورين.
ومن المزاح جعلت فداك باب مكر وجنس خدع يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن. وبعد فمتى أعدت النفس عذرا كانت إلى القبيح أسرع ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرا ممن تمازحه يضحك وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته، فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فان قلت: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جوهره وطريقه؟
قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة ووثقت بثواب الإحسان وعلمت أنك لا تقص إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقا والأمل قائدا. وأي عمل أردّ وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبا لكنت شريكي فيه، ولو كان تقصيرا لكنت سببي إليه، لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفظ. ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كنت اجترأت عليك فلم أجتريء عليك إلا بك، وإن كنت أخطأت فلم أخطيء عليك إلا لك، لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفظ وداعية إلى ترك التحرز.
وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل لطلاب غرض سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للمادح رجز لا فيك وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ فلولا أن يأخذ الواصف بنصيبه منك وبحصته من الصدق فيك، وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغوا، وكان تشقيق الكلام عجزا، ولكان تكلفه فضلا، ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يمتحن بالتسليم لك، أو يعد إقراره إحسانا وخضوعه إنصافا؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك؟ وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ أم من الشبيه لك في منزلتك؟ ألست خلف الأخيار وبقية الأبرار؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئا أو يفوقه شيء أو يقال لو لم يكن كذا لكان أحسن أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل والتمام الذي لا يحيل إلا فيك أو عندك أو لك أو معك، خالصة لك ومقصورة عليك، لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، فلك منه الكل وللناس البعض، ولك الصافي وللناس المشوب؟! هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، لا بل أين الحسن المصمت، والجمال المفرد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور، والفضل المشهور إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أريب إلا وظلك أكبر من شخصه، وظنك أكثر من علمه، وإسمك أفضل من معناه، وحكمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك، وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك، وهل حملت النساء أجل منك!
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدتّه نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء. فان ذلك معنى مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرت النار.
والعجب أيها السامع أني مقصر، وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط، وهو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشؤه محمود، غذي بالنعمة وعاش في الغبطة وأرهفه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته وآخره كأوله. تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف، ولا يمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلتحج باستبانة المشكل، يتخير من الألفاظ أرقها مخرجا ومن المعاني أدقها مسلكا، وأحسنها قبولا، وأجودها وقوعا وأتمها إطماعا، بأقوى الكلام وأوجزه وأعذبه وأحسنه، يقلل عدد حروفه ويكثر عدد معانيه. ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقا إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكنه وعقله وسعة صدره. وبعد [نظره] ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعا. فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وتشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك، فكم من كبد حرّى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم من حشا خافق، وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية، وكم عبرى مولهة، وفتاة معذبة، قد أقرح قلبها الحزن وأجمد عينها الكمد، قد استبدلت بالحلي العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المره، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت نارا تتوقد، وشعلة تتوهج؟
وليس حسنك أبقاك الله الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر، أو يهذبه خوف. هو أعزك الله شيء ينقض العادة، ويفسخ المنّة، ويعجل عن الرويّة، ويطرح بالعرا، وتنسى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب به جعدة السلمي، بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حسنه الإفراط عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم. فلا تعجب إن كنت نهاية الهمة وغاية الأمنية، فإن حسن الوجه إذا وافق حسن القوام، وجودة الرأي، وكثرة العلم، وسعة الخلق، والمغرس الطيب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان البين، والنعمة البهجة والمخرج السهل، والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة، والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة، والهذ عند المناقلة والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والايجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الاطناب، يفل الحز، ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال والحمد. والتاج بهيّ، وهو على رأس الملك أبهى، والياقوت كريم حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن، وهو من فم المنشد أحسن، وإن كان قول المنشد فريضة من نجثه ومختبره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أم إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري: الكأس في يدك احسن ام القلم ام الرمح الذي تحمله، ام المخصرة ام العنان الذي تمسكه، ام السوط الذي تعلقه، وكما اصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأيك أحسن وايها اجمل وأشكل اللمة أم مخطّ اللحية، أم الإكليل أم العصابة أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة! فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، انها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم. أما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأيّ الذي يبدأ به أجمل: الحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف. وعلى أننا ما ندري أي السنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى، أقلمك أم خطك، أم لفظك، أم إشارتك، أم عقدك. وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم والحمد لله، وواحدهم وأعيذك بالله، وأنت تجوز الغاية، وتفوق النهاية.
وقد علمنا أن القمر هو الذي تضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال وهو مع ذلك يبدو ضيئلا نضوا، ويظهر معوجا شختا وأنت أبدا قمر بدر وفخم غمر. ثم مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسا كما يكون سعدا، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويخمّ فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه، وعلى أنه قد محق حسنه المحاق وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال ولا خالص البياض ولا متلأليء، ويعلوه برد ويكسوه ظل الأرض. ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله وليلة فخره واحتفاله، وكثيرا ما يعتريه الصفار من بخار البحار.
وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن. وإن احتجوا عليك بالجزر والمد، احتججت عليهم بالعلم والحلم، وبأن طاعتك اختيار واعتبار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا تمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا حس فيه. ولا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة، ومجالس الخير مأهولة، ونسيم الهواء طببا، وتراب الأرض عبقا. إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تمسكنت فالرهبانية والأخلاص، وإن ترزنت «فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل» .
وطباعك جعلت فداك طباع الخمر إلا أنك حلال كلك، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله عليه، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته ولبابه وشرفه وبهاؤه. وهل يضر القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة عليها.؟
[22- عودة الى قيمة المزاح والجد]
فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذهب الناس في المزاح إلى مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة. فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد. وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان.
وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.
فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فانه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى.
وأن الجد غضب والمزح جمام. والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه. والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. والجد مألم التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا وكدوا ليستريحوا. وإن كان المزاح إنما صار معيبا، والهزل إنما صار مذموما لأن صاحبه لا يكون معرضا لمجاوزة القدر ومخاطرا بمودة الصديق. فالجد داعية الى الإفراط كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر. والتجاوز للحد قاطع بين القرينين في جميع النوعين. فقد ساواه المزاح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح قبيحا لأنه يورث الجد، فأقبح من المزح ما صير المزح قبيحا، لأن الذي يكون بعده الجد، ولم يصير الجد قبيحا لأن الذي بعده المزح، كان الجد في هذا الوزن أقبح من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد، لأن ما جعل الشيء قبيحا أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنا أحسن من الشيء.
وأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيء موضع وليس شيء يصلح في كل موضع. وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ في المباح كما شدد في المفروض، وجعل المباح جماما للقلوب وراحة للأبدان وعونا على معاودة الأعمال. فصار الإطلاق كالحظر والصبر كالشكر. وليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيء إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق الله العباد إلا بالصواب محضا وبالصدق صرفا وبمر الحق صفحا، لهلك العوام وانتقض أمر الخواص. ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولوجد في كل شيء لانتكث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلما كما يكون النسيان للسلامة سببا. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك مجرى جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، والحق أن ينضح عن بعض المزح ويحتج لجمهور الجد، وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون قال الشاعر:
«وذو باطل إن شئت ألهاك باطله»
وقال آخر:
أخو الجدّ إن يجدد فما من وتيرة ... لديه وإن يهزل يعللك باطله
وإن كانوا قد تسموا بعابس وعباس وشتيم وكالح وقاطب وحرب ومرة وصخر وحنظلة وحزن وحجر وقرد وخنزير، فقد تسموا بالضحاك والبطال وبسام وهزال ونشيط. وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال كان فيه مزاح، وكذلك لا يقال مزّاح. وكذلك الأئمة ومن هزل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. فما روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «يا أبا عمير ما فعل النّغير» وقوله: «لا تدخل الجنة عجوز» وقوله: «زوجك الذي في عينيه بياض» وقد كان علي رضي الله عنه يمزح. وقال عمر: إنا إذا خلونا كنا كأحدكم. وقد كان عمر عبوسا قطوبا. وقد كان زياد مع كلوحه وقطوبه يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا. وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه وتمرده وشدة سلطانه يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: والله إن تروني إلا شيطانا، والله لربما رأيتني وإني أقبل رجل إحداهن! فقد ذكرنا خير العالمين وجلة من خيار المسلمين وجبارا عنيدا وكافرا لعينا.
وبعد، فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة وفرع من فروع الطلاقة! وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ولم يأتنا بالانقباض والقسوة وقد أمرنا بافشاء السلام وبالبشر عند التلاقي وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي. قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك تبسما. وقالوا: كان لا يستغرق ضحكا. وقال: «دففوا على صاحبكم» .
وقال: «هذه أيام أكل وشرب وتعلل» وسمع جواري تضرب الكبر عند عائشة فلم ينكره وضحك في قيافة مجزز المدلجي ومن الاعرابي صاحب الدجال.
قد اعتذرنا من معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزح ومرة بالنسيان ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك. على اني لم ارد بمزاحك الا ضحك سنك، انظر هل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك؟ وفي الجملة إنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل فحظك أصبت ولنفسك نظرت، وإن لم تقبل فاجهل جهدك ثم أجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت، وأقول كما قال أخو بني منقر:
فما بقيا عليّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النّبال
والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بأحمد بن خلف وباسماعيل بن علي، ولئن صلت عليّ بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط لأتيهن عليك بحسة وهب الدلال! وأنا أرى لك أن تقبل العافية وترغب الى الله تعالى في طول السلامة، واحذر البغي فان مصرعه وخيم، واتق الظلم فان مرعاه وبيل، وإياك أن نتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر. ولطاهر إذا صال، ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل قدر نفسه لم يعرف قدر غيره.
وقد رعيت لك حق نبيذك وحسن شرابك وإن كان فوق العيوق ودونه بيض الأنوق، وحق توتيائك وإن بعثت به ممزوجا فكيف لو بعثت به خالصا.
وعليك بالجد فانه خير لك، ودع البيات فانه أمثل بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الإخبار أني أشد منك عقلا، وأظهر منك حزما وألطف كيدا، وأكثر علما، وأوزن حلما وأخف روحا، وأكرم عينا، وأقل غشا، وأجل قدا وأبعد غورا، وأجمل وجها، وأنصع ظرفا، وأكثر ملحا، وأنطق لسانا، وأحسن بيانا وأجهر جهارة، وأحسن إشارة. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتغر من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء. ليس عندك إلا ذلك. فلم تزاحم البحار بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ..!؟
[23- شروط التمثيل وانواع الخطأ]
فأما الباد والقامة فمن يعدل بين القناة والكرة، ومن يمثل بين النخلة والدكان وبين رحى الطحان وسيف يمان! وإنما يكون التمثيل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين، وبين المتقاربين دون المتقاوتين، فأما الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا ما لا يخطيء فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس، والخطأ ثلاث: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي، كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير والتقويم والتأنيب، والعمد نوع واحد وسبيله القمع والحظر والضرب والقتل، وأول ذلك أن يهجره صاحب الحكمة ولا يطمعه في وعظ ولا مجالسة. وقد رأيت من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به استنباطا، ولم أر من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به عيانا. وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو اليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة فيه حتى تكون لك فيه الرئاسة، ولا ترضى بالرئاسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري والمواليد التي تنمى، ولا ترضى أن تكون أولا حتى تكون آخرا، ولا بالمداراة دون المباداة، ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام، وأن التقصير كفر.
[24- الامام عند الشيعة]
وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة، ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة. لأنك رجل لا عقب لك، والإمامة اليوم لا تصلح في الاخوة ولو صلحت في الأخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم إنها دنت من الأرحام بعد ذلك فصارت لا تصلح إلا في الولد، وفي هذا القياس إنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه آخر الأبد. وهذا هو علة أصحاب التناسخ وأنت رافضي، ولم يكن هذا عندك. فاهد اليّ الآن من خالص التوتياء كما أهديت اليك باب التناسخ. وأنت ترى القتل في حق المعاندة شهادة، وترى أن مباينة المنصفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرئاسة في دفع الحقائق مرتبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضعة، وأن الشهرة بالمبالغة رفعة. أظهر القوم عندك حجة أرفعهم صوتا، وأخلقهم للمثوبة أصلبهم وجها، وأحسنهم تقية أقلهم حرجا، وأكثرهم عندك إنصافا أشدهم شغبا. تعشق المتهور وتكلف بالجموح وتصافي الوقاح. والأديب عندك من عاب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغمز في قفا النديم، ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كلّ نعمة، وأنكر كل حقيقة.
[25- علة الاستطراد]
جعلت فداك، إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، لأنك متى كنت للشيء منتظرا وله متوقعا كان أحظى لما يرد عليك واشهى لما يهدى إليك، وكل منتظر معظم، وكل مأمول مكرم.
كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا بالاقتباس، وشحا على نصيبي منك، وضنا بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر.
[26- اسئلة على الأنبياء والمتنبئين]
خبرني: كيف كانت خدائع المتنبئين، ومخاريق الكذابين ممن قد كان ترشح للتنبوء، ومن لم يظهر دعوته، ومن دعا واجتهد، ومن أجيب، ومن لم يجب. وصف لي أبواب مصايدهم وأجناس كيدهم وحيلهم، وعن اعتمادهم على المواطأة، وعن تقدمهم في الحجة، وعمن ذهب في طريق التفهم، وعن أصحاب الزّجر والتنجيم، وعن أصحاب الاسترحام، وعن إظهار الزهد وتحريم الاستمتاع، ومن وافق صورته وحاله بعض ما في البشارات المتقدمة وما في الكتب الصحيحة، ومن اتفق له غير ذلك من الشبهة. فقل في شيث بن آدم، وقل في زرادشت، وفي ماني، وفي فولس، وفيما ادّعي لمرقس ومتّى ولوقا ويوحنا. وخبرني عن الأسود العنسي، ومسيلمة الحنفي، وطليحة الأسدي، وبنت عقفان، وربعي، وأمية بن أبي الصلت، وما قصة الطائرين الاخضرين، وما كان شأن الرماح. وخبرني عن سلمى بن جندل، وما قال الهند في نزول البدّ، وقصة ابن ديصان، وما قول عبدة الكيان وعباد قوة الهيولى وأصحاب البيضة، ومن عبد النجوم وثبت لها الحس والعلم والنفع والضر، ومن جعل كل داع إلى الله بالصواب والعدل وصلة الرحم ونفي الجهل نبيا، ومن أنكر أصل النبوة البتة، وما تقول في حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان؟ وقل في الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وهل يجوز أن يكفر نبي أو يشرك أو يضل بعد هدايته، ويصير عدوا بعد ولايته، ويدل الله على كذبه كما دل على صدقه؟ وكيف صار النبي عندكم يعصي ويخطيء والإمام لا يعصي ولا يخطيء؟ وكيف ساغ ذلك في جميع النبيين وأمكن في جميع المرسلين، على كثرة عدد النبيين والمرسلين، ولم يجز ذلك في إمام واحد مع قلة عدد الأئمة مذ كانوا؟
[27- اسئلة على الاديان]
وخبرني لم تنصر النعمان ويزيد بن الحارث، وتهود ذو نواس، وتمجست ملوك سبأ؟ وكيف صارت العرب فرقا بين محلّ ومحرم وأحمسي، سوى تفرقهم في الملل، وكيف لم نر أمة قط دهرية وقد علمنا أنه لا يجوز أن يتنبأ دهري؟ وكيف لم يتدهر ملك، وكيف لم نجد قول الدهرية إلا في الخاص والشاذ والرجل النادر؟ ولم كان لجميع أهل الاديان مملكة وملوك إلا الزنادقة ولم قتلهم جميع الأمم السالفة؟ ولم قضيت بهذا وقد رأينا المصدقية والدّيناوريّة والتّغزغزية! فإن قلت: لأن من لم يكن من دينه القتال ولا من غريزته البأس فهو مسلوب أو مسترق، فما بال الروم تمنع أن تسترق وأن تسلب وليس في دينهم قتال ولا جدال ولا مكافأة ولا دفع.
[28- اسئلة على العرافة والسحر]
جعلت فداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان يقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهجيمي، وأين كان أبو منصور المخاريقي من جرمي، وأين بامونة من حسده، وأين قشة اليهودي من كشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزّي سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حليس الخطاط. وحدثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة [أقتلتا] باقرار منهما بكيفية السحر؟. وحدثني عن صاحب جندب بن زهير باقرار قتله أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟. وهل ثبت جعلت فداك أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في جف طلعة ووضع تحت راعوفة البئر أم لا؟
وخبرني: ما البحر باي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المفسرون فيها وزعموا أنها كانت رأس هر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخبرني: ما تأويل الزّمزمة، وما فعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم.
وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟
[29- اسئلة على التذكر والنسيان]
وخبرني جعلت فداك عن قولك في الشعر الذي ننشده في المنام مما لم نسمع بأجود منه في اليقظة، وعن الشعر الذي نخترعه عن مناقلة الكلام وموازنة الأمور وحال النوم، وحال الآفة والنقص وصاحبه مغمور أم شبيه بالمغمور ولا يجري عليه قلم ولا يلام ولا يشكر، ولم صرنا نتذكر الشيء المهم فلا نقدر عليه حتى ندعه فأيسنا منه أجمع ما نكون أنفسا وأحسن ما نكون تذكرا، ثم يعارضنا ويخطر على بالنا في حال سهر أو في حال نوم وأغنى ما نكون عنه وأقل ما نكون احتفالا به، ولم صرنا ننسى من القصيدة بيتا أو آية من جميع السورة أو كلمة من جميع كلام الخطبة، ولم صار البلغم بالباء أولى منه بالتاء، ولم كانت المرّة السوداء بالجيم أولى منها بالحاء، وكذلك القلب المانع من الحفظ. وهل بد للحقيقة من خصائص أسباب وأعيان علل؟ وإلا فقد يجوز أن تنسى هذه القصيدة بدل تلك، ولم صار بعض الناس أحفظ للنسب وبعضهم أحفظ للاسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للالفاظ. ولم صرنا لا ننسى السباحة وبالاكتساب عرفناها والعادة أن المكتسب قد ينسى ويجهل، وأن الضروريات لا تجهل. وقل لي لم لم تضرب السامري، ولم لم تعض ماني وتمضه، ولم لم تبزق في وجه فرعون. أم إن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قواله الكناني حين قال على رأس النعمان وأنت رجل يمان هي التي منعتك من أن تبزق في وجه فرعون وأنت سمعته يقول: «وما رب العالمين» ؟ ولم أزعم أنك رجل يمان لولادة لك في قحطان، كيف وأنت أقدم من قحطان ومعد بن عدنان، ومن القرون التي خبر الله عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها! ولكنك منهم بالهوى والنصرة، ولأنهم كانوا لك أحشاما وصنيعة.
وقل لم صار جميع الحيوان يسبح إلا الانسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر؟ وأي شيء عندك في آصف، وفي سفر آدم، وفي جراب موسى، وفي درسب، وفي شنلة، وفي كتاب الأسماء، وفي قولهم دعا فلان باسم الله الاعظم، وما تقول في ابن عقيب، وفي أشج بن عمرو، وفي شعيب وصالح، وفي السفياني، وفي الأصفر القحطاني.
[30- اسئلة على الرياضيات]
وخبرني جعلت فداك مذ كم صنعت حساب الهسمرح، ومن صاحب خطوط الهند، وأين كتب قوم صنعة السند هند والأركند وحساب كلا سفر؟
ومذ كم عمل الباب الجامع، ومذ كم عمل الارتماطيقي، ومن سمى الجبر بالجبر، والجذر بالجذر، والنشاذر بالبارود، والأكدرية من أي شيء اشتقت، وما تأويل الدحال، وما تأويل الجمل، ومن أول من عد إلى عشرة وجعل العشرة منتهى وغاية، ثم ضاعفها وجعل غايات الأعداد عشر العشرات وعشرات عشرات العشرات أبدا، ثم كسر على العشرة مما دون أعدادها، لأن الأصابع عشرة، وكيف لم يجعل الغاية ما له نصف وثلث وربع وسدس وثمن، أم رأى أن التضعيف أبدا لا يكون إلا للعشرات، فقد نجده في عشر العشرات، أم القول الأول الأشياء كلها عشرات، ولست أعرف جعلت فداك قوله إن الانسان عشرة أشياء، كما لم أعرف قول الفزاري أن العقل كريّ، وقد علمت أن القلب كري، وأن الرأس الذي جمع الحواس كري. فأما العلم والقول وما أشبههما فإنا لا نعرف هذه الأمور إلا على خلاف الأجرام الموصولة والمقطوعة، وقد شدوت من الموسيقى ولم أبلغ منه شهوتي.
[31- اسئلة على الموسيقى وبعض الكتب المعربة]
فخبرني أين كان أقليدس وميرسطوس من فيثاغورس، وأين تلامذتهما من تلامذته، وهلا قدمتم أقليدس مع صنعة البرابط والمعارف؟ وأين أرشخانس من مورسطس، وأين ريوشت من فلهوذ، ولم قتله وهو فوقه في الإطراب والصنعة وفي الرواية والرئاسة، ولم عفا سابور عن قتله بعد إقراره بقتله وبعد أن سحب الى الفيلة وعزم على إمضاء الحكم. وأين كانت هر وفرتنا من الجرادتين، وأبو طيبة والرباب من السردان والمهراس، وأين حبابة من سلّامة صاحبتي يزيد، وأين عزة الميلاء من جميلة الحدباء، وأين حيية من الميلاء.
وخبرني عن غناء الركبانية للمصطلق أخذته منه الركبان أم للركبان وهل رجعه بخسر المصطلق، وزعمت أن الاهراج لليمن، وأن النصب للقينات، فلمن السناد؟ فخبرني أين كان ضبيس بن حرام من المصطلق بن سعيدة، ولم جعل المعلم النغم يعد لليوناني ست عشرة نغمة؟ ألأنه لم يدرك أكثر منها أم لأنه ليس في الحلقة إلا ما أدرك، ولم جعل الرعب للسوداء، والحزن للبلغم، والجرأة للصفراء، والسرور للدم. ولم فسر الأوتار على ذلك فجعل الزير للصفراء، والمثنى للدم، والمثلث للبلغم، والبم للسوداء! وقال: ألزير لطيف ناري خفيف، والمثنى هوائيّ بين طبيعة النار وهو دون النار في الخفة وبين طبيعة الماء وهو فوق الماء في الخفة، والمثلث كالماء، والبم كالأرض، وفي المثنى ضعف وزن الزير، وفي المثلث ضعفا وزن الزير، وفي البم ثلاثة أضعاف. ولم زعم أن من اللحون ما يقلق ويفرق فإن زيد فيه نقض وإن قوي قتل. وأن فيها ما يغير فان زيد فيه غشىّ وإن قوي أجمد فإن قوي قتل. فجعل لحنا مطلقا يقتل بالإذابة، وجعل لحنا يقتل بالاجماد. ولم وصف اللحون بالإجماد والاضاعة كما توصف السموم القاتلة؟. خبرني عن صنعة البربط، للمك أم لرفائيل أم لأقليدس؟ وما تقول في قولهم إن لمكا عمل العود على صورة فخذ ابنه ساقها وقدمها وأصابعها وأنه جعل الصدر الفخذ، والساق الإبريق، والقدم المشط، والأصابع الملاوي، والأوتار العصب والعروق.
جعلت فداك كيف حفظك لكتاب كاوريد، وقد خبرني بعض المتكلمين أنه رأى بسيراف مجوسيا يحفظه وهو في ألف جلد بخط مقارب. وكيف حفظك لكتاب الطرف وهل لقيت واضعه أيام أدخلك بلاد الروم نزول عطارد؟
وخبرني عن أسرار الهند ألرجل بعينه أم لشورى؟ ولم زعموا أن العقوق يورث البرص، وهذا مما لا يعرف في الطب. ومن صاحب الشطرنج، ومن صاحب كليلة ودمنة، ومن واضع الكوكلة، ومن طبع القلعة، ولم صار الهندي والرومي لا يحفلان بالسندي في حال الأسر ويرغبان عنه في حال القتال. وقد اختلفوا علينا في النعال السندية فزعم قوم أن صاحب كتاب الباه كان قصيرا منكرا وكان بالنساء مستهترا وأنه احتال بها لجسمه حتى وصلها برجله ليكون ثخنها زائدا في طوله فلما طالت الأيام ومضت الدهور ظن من لا علم له أنها اتخذت للزينة أو لضرب من المرفق. وقال آخرون: بل اتخذت للعقارب ليلا وللطين نهارا، فلما طال عليها نسي السبب، وذلك أن أكثر الرداغ لا تستغرق ثخنها وابرة العقرب لا تكاد تجاوزها وقال آخرون: بل إنما اتخذتها ملوكها لمكان أصواتها وصريرها استئذانا على أزواجها وأمهات أولادها وعلى جميع محارمها لحالات تكنّ عليها وأمور تكن فيها، فصار صريرها تدنأ واستئذانا.
وزعم إسماعيل بن علي أنك أنت الذي كنت أمرت باتخاذها وأشرت بصنعها، وأنك تكتم السر الذي فيه، وأنك الذي علمتهم مضغ التانبول ودبغ تحمير الاسنان، وتطيب النكهة، وأكل السعد لما أنت أعلم به، والتصندل لما لا يجوز المكاتبة فيه، وأنك أول من احتبى هناك واستاك وفرق شعره وعلم الخضاب أهله. وكيف وقد زعمت أن الاحتباء إنما صار فيهم وفي العرب لأن نازلة العمد والصحاري وسكان الفيافي والبراري وكل من ليس لشماله مرفقة ولا لظهره مسندة ولا لفخذه جنة لا بد أن يشتكي ظهره إذا طال انتصابه وكثر جلوسه، ومن احتاج احتال، ومن استغنى تبلد. فأخرجت لهم الحبكة للحبوة حتى قامت لهم مكان المتكأ والمسند. فقد قال لك كسرى: فما بال الترك والخزر وجميع أهل الصحاري والعمد لا يعرفون الاحتباء، والحاجة واحدة والعقول سليمة، فلم أمسكت يومئذ عن الجواب؟ ألأنه استفهم استفهام الراد أو نفست به على من شهد ذلك المشهد؟
[32- اسئلة على المعرفة وطرقها]
وأنا جعلت فداك أعلم إنّي أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه، كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه، أم معدن العقل القلب دون الدماغ أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والإضطراب وغير ذلك. فكيف القول فيه وعلام عزمت منه. وكيف صار الناظر يبتدي من جهة وإن كان يعرف الله فكيف عرفه، أباضطرار أم باكتساب. وكيف جهل سليمان موضع ملكة سبأ، وهو ملك وشأنه عظيم والجن له مسخرة والطير له برد والريح له أداة، وكيف جهل يوسف مكان أبيه وحاله في الحزن عليه حاله وهو ملك نبي، وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبي، وليس أنبه من نبي، وملك هذا بالشام والآخر بمصر. وما تقول في أهل التيه وعن ترددهم أربعين عاما في مكان واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق، فكيف أضل الجميع الطريق مع ارتفاع الذكر وشدة الطلب. وخبرني عن كلام عيسى في بطن أمه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصبا، أكانا في حالهما يتعقلان ما لا يعلمان أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف علما، أبتجربة واستنباط وعن تمام أداة وكمال آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة.
وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مسألتي، وتعجبي من تعجبهم أشد والذي كان من إنكارهم أعظم ولو رغبوا في العلم رغبتي ورأوا فيه مثل رأيي وكانوا قرأوا كتابي إليك في شيبتي وأيام شباب رغبتي لاستقلوا من ذلك ما استكثروا ولا ستقصروا منه ما استطالوا. فإن أذنت لي أظهرته، وإن تجد علي أعلنته.
وسنقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك جعلت فداك مسؤول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب. ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لافلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أحببت معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الاسواري، فتربية كفك والناشي تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه أعنى.
[33- اسئلة على المرائي والابصار]
وخبرني عن المرائي كيف صارت ترى الوجوه ويبصر فيها الخلق وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن، كالسيف، والوذيلة، والقوارير، والماء الراكد، حتى الحبر البراق، والحدقة السوداء إذا كان الناظر في الحدقة أبيض والحدقة المغربة إذا كان الناظر فيها أسود. وكيف صار الماء الجاري والنار الملتهبة والشمس ذات الشعاع لا تقبل الصورة ولا يثبت فيها الخلق. وعن قول من زعم أنه ليس في القمر محق ثابت، ولا كمد جامد، ولا سواد واكد، وإنما ذلك شيء رآه الناس فيه إذ كان أملس صقيلا بمقابلة الأرض وما فيها كما يرى من قابل الحدقة صورة إنسان، وليس هناك صورة، وإنما هو شيء يوجد عند المقابلة. ولم صار بعض المرائي يرى الوجه والقفا ويرى الرأس منكسا، ولم كنت لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدا إلا مقلوبا، وما تلك الصورة الثابتة في المرآة أعرض أم جوهر أم أي شيء، وحقيقة أم تخييل، والذي نرى أهو وجهك أو غير وجهك فان كان عرضا فما الذي ولده وما الذي أوجبه والوجه لم يماسه ولم يعمل فيه. وهل أبطلت تلك الصورة المرئية صورة مكانها في المرآة، ولم وأنت لست تراها في نفس صفيحة المرآة، ولم وكأنك تراها في هواء خلف جوفها، وهل أبطل ذلك اللون الذي هو في مثال لونك لون المرآة؟ فإن لم يكن أبطله فهناك إذا صورتان في جسم في حال واحد، أو لونان في جوهر واحد. وإن كان قد أبطل لون الحديد فكيف أبطله من غير أن يكون عمل فيه، وكيف يعمل فيه وحيزه غير حيزه وهو لا مماسّ ولا متصل ولا مصادم. وسواء ذكرنا صفيحة الحديد أم ما خلفها من الهواء وما قدامها من الفرجة، كل ذلك جسم ذو لون. فان اعتللت بالشعاع الفاصل والشعاع يخالف في الحس، كذلك الحساس وكذلك المحسوس، وكيف نرى المخالف وكيف والشعاع لون وبياض والنفس الحساسة لا تدرك بشيء من الحواس وما الفرق بين الأثعبان والاحللان وعن قول ما بين السمون والحفرة.
وخبرني عن القرسطون كيف أخرج أحد رأسيه ثلاثمائة رطل زاد ذلك أم نقص ووزن جميعه ثلاثون رطلا زاد ذلك أم نقص. وما تقول في السراب، وما تقول في الصدى، وما تقول في القوس، وما تقول في طريقة الحمرة، وفي طريقة الخضرة، وكيف اختلفتا والهواء واحد وما يقابلهما واحد، وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل.
[34- اسئلة على الالوان]
وخبرني عن لون ذنب الطاووس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يتلون بقدر المقابلة أم تقول إن هناك لونا بعينه والباقي تخييل! وما تقول في عس الماء كيف اشتد صوته بلا باب والصوت لا بد له من هواء، وإذا اشتد فلا بد له من باب، وما نقول في خضر السماء، أهو خضر جلدها كما تقول، أم ذلك لحر الهواء كما يقول خصمنا؟ وهل تزعم أن الأفلاك ذات لون؟ فان كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلاف ما يقولون. وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذا غير الفلك فهذا هذا. ونقول أيضا إن كنا لا نرى القرى المستطيلة البنيان المختلفة من البعد إلا مستديرة فلعل الشمس مصلبة والكواكب مربعة. وما تقول في المد والجزر، أمن ملك يضع رجلا ويرفع رجلا، فان كان كذلك فلعل مدبر الفلك ملك ولعل صوت الرعد صوت زجر ملك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المد والجزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض، فانما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه يعرف ذلك أهل الجزر والمد.
[35- اسئلة على القيافة والظلام]
وخبرني كيف صارت القيافة في النسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلفا وصنعة، ولا عرفت بالاستنباط والفكرة، فتكون لمن تعلم دون من يتعلم، نجدها في بني مدلج، ثم في خاص من خثعم، وكذلك خزاعة، وهي في قريش أقل. وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأب ولا يجمعهم بلد، وليس فيما بين البلدين قافة وهي فيهم على هذه الصفة. وكيف لم يختلفوا في لغتهم فينطق بعضهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية. فان قلت فارقهم المعجم والشاعر والبكي والغرير، فان الشاعر وإن كان القريض عليه اسهل وهو على القوافي أقدر فإنه يتروى الشعر ويصنعه ويتفرد له ويفكر فيه، وكيف صار الانسان يعيش حيث تعيش النار ويموت حيث تموت النار، يصاب علم ذلك في الحباب وفي الغيران، ولم صار يبصر النجوم من قعر البئر العميقة ولا يبصرها أبدا إلا وهو خالص الظلمة. وخبرني عن الظلام أجسم موجود عند زوال الضوء، أم تأويل قولنا ظلام إنما نريد به دفع الضوء! فإن كان الظلام معنى أفتراه انقمع في الأرض وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قرص للضلام كما أن عين الشمس قرص للضياء، وإن كان قائما فكيف لم يتنافيا. وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على منظر الأعين، ولو كان الأمر كذلك فنحن إذا لم نر ضياء قط ولا ظلاما.
[36- اسئلة على نقص الاعضاء الداخلية]
وخبرني جعلت فداك لم زعمت أن الحس للعصب، وأن الشر عصب جامد وأن الرئة لا حس لها، وأن من أدام سف اللبان لم يؤلمه المؤلم وألذه الملذ، وكيف يلذ من لا يألم، ولو جاز ذلك لعرف الصواب من يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب. هذا ما عندي من العلم البراني وأنت أبصر بالعلم الجواني.
وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال له، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها، ولم كانت حيتان البحر لا ألسنة لها، ولم حاضت الأرنب ولم اجترت، ولم كان قضيبه من عظام ولم كانت علائق أجواف السبع أفرادا إلا الكلية. وزعمت أنك تعرف في الخفاش سبعين أعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعا، وأنك تعرف في الذهب مائة خصلة كريمة، والناس لا يعرفون إلا عشرا، وأنك تعرف في البعير ألف داء ودواء والأعراب لا تدعي إلا مائة داء غير دواء.
[37- اسئلة على السحر والشيطان]
جعلت فداك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كاد البيان أن يكون سحرا» وقال: «إن من البيان لسحرا» وقال عمر بن عبد العزيز وسمع رجلا يتكلم بكلام بليغ عجيب لطيف رقيق: هذا والله السحر الحلال. وقال الناس لذي المكر والخلابة ولذي الرفق والتأتي: ما هو إلا ساحر، وقد سحر بكلامه. وقالوا للمرأة: ساحرة العينين. وقد ذكر الله السحرة في القرآن وأخبر عن هاروت وماروت وخبر عن النفاثات في العقد. وقال الناس: لهو أقبح من السحر. إذا أرادوا نفس المعنى المشبه به والمعنى المحصول عليه والسحر نفسه. وما الذي اشتقت منه هذه الأمثال؟ ولم تجدهم أبقاك الله سموا كهان العرب سحرة، ولا العرّاف ساحرا، ولا الحازي، ولا صاحب الطّرق، ولا من كان معه رئيّ، ولا من ادعى تابعة من لدن عمرو بن لحيّ إلى يومنا هذا.
وما قاله [الساحر] اذا عقد عقدا أو دفن صورة بالأندلس لرجل بفرغانة وإذا صور شمعتين وخرطهما على مثال إنسانين ودفنهما وخبأ مكانهما وقابل بين وجوههما تقابلا بالمودة، وإن دابر بينهما تدابرا بالعداوة. وقل لي من يتولى هذا له ومن يقوم له به ومن يتطوع به عليه، فإن قلت الشيطان، فلم فعل هذا له وأول شيطنته أن لا يطيع من هو فوقه، فإن قلت: بالعزائم التي لا ترد والأيمان التي لا تدفع، فقد عزم الله عليه بالقرآن والتوراة والانجيل فلم يجده يحفل بذلك ولا يرى له قدرا ولا يكترث له ولا يراه سببا. وأخبرني ما هذه العزيمة التي إذا سمع بها أجاب، وإذا ظهرت له أناب، ومن أين عرف الإنسان هذه العزيمة، ومن أين وقع عليها، ومن له بها، أهو صنعها أم صنعت له فإن يكن الشيطان هو الذي ابتدأه بها فقد ابتدأه إذا بتعريف العزيمة قبل أن يعزم عليه، وقد تطوع بأعظم الأمور، فما الذي يحوجه الى العزيمة في أصغرها، فقل في هذا. وإن زعمت أن العازم صاحبه دون الشيطان، والعازم مسلم وإن كان مسلما ولذلك أجاب العزيمة وعظم الإخلاف، فلم يخبل له الأصحاء ويقتل المرضى ولم يحبّب ويبغض، ولم يفرق بين المرء وأهله، وبين الولد البارّ وأمه، ولم يجتلب العفائف إلى الزناة، ولم يعذب ويقتل؟ وهذا متناقض.
[38- اسئلة على بعض عجائب الحيوانات]
ولم قيل أعق من ضب وأبر من هرة، وهما جميعا يأكلان أولادهما، ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت حتى قال الشاعر: «حتى عال أوس عيالها» وهل يفهم الضبع قولهم: خامري أم عامر؟ وما بال الظبي لا يدخل كناسه إلا مستدبرا وهل يجوز قولهم في نوم الذئب قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... المنايا بأخرى فهو يقظان هاجع
ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين، ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دما، وما بال الجن والثيران، وما بال الشياطين والورشان، وهل في الحيات جنان. وما معنى قولهم: كأنما كسر فجبر. وما تأويل الحديث: يؤخذ للجماء من القرناء. ويكلف أن يعقد بين شعيرتين.
[39- الجواب على هذه الأسئلة موجود في كتب الجاحظ]
ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك أن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان. وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيرا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فالزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي وابتدىء بنفي التشبيه والقول بالبداء واستبدل بالرفض الأعتزال، وأن أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ فلا يبعد الله إلا من ظلم.
[40- مجموعة من حكم الفلاسفة]
وقد بقيت لي عليك مسائل وهي خاتمة الكتاب ومنتهى المسائل: أيهما أحسن قول بقراط مفسرا: العمر قصير والصناعة طويلة والزمان جديد والتجربة خطأ والقضاء عسر، أم قول أفلاطون مجملا: لولا أن في قولي أني لا أعلم تثبيتا لأني أعلم لقلت إني لا أعلم، أم تواضع أرشخانس حيث يقول: ليس معي من فضيلة العلوم إلا علمي بأني لست بعالم. فانظر في آخر هؤلاء ثم انظر في قول ديمقراط: عالم معاند خير من عالم منصف جاهل، وفي قول تلميذه الأول: الجاهل لا يكون منصفا والعالم لا يكون معاندا وقد يكون العالم معاندا. ثم انظر في قول ريسموس: لولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلا به أحب الي من أن أدعه زهدا فيه، وإن كان الجهل لا يكون إلا من نقصان في آلة الحس فإن المعاندة [هي] زيادة في آلة الشر، ولأن أترك جميع الخير أحب إلي من أن أفعل بعض الشر، ثم انظر في قول تومقراط؛ العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد العمل مولود، وكان العمل لمكان العلم ولم يكن العلم لمكان العمل. فالسبب الجالب خير من السبب المجلوب، والغالب خير من المغلوب. وانظر في قول اقليمون: ألعلم كان من العمل والعمل غاية، والعلم رائد والعمل مرشد. ثم انظر في قول ارسطاطاليس: ليس طلبي العلم طمعا في بلوغ قاصيته ولا سبيلا إلى غايته ولكن التمس ما لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. ثم انظر في قوله: قد عرفت الارتماطيقى، وأيقنت معرفة الموسيقى، وعرفت المساحة، فلم يبق إلا علم الآلهي ومعرفة الاصلاح. ثم انظر في قول مورسطوس: عرفت أكثر المقصود وأقل ما يوقف عليه من المبسوط، وقليل الكثير كثير، وكثير القليل كثير.
ثم انظر في قول اقليمون: ما أقل منفعة كثير المعرفة مع شرف الطبيعة واقتصاد الشهوة. ثم انظر في قول تلميذه الأول: غلبة الطبيعة تبطل المعرفة وتنسى العاقبة ولو كانت المعرفة ثابتة لكانت هي الغالبة. ثم انظر في قول تلميذه الثاني: ليس بعلم ما كان مغلوبا وليس بفهم ما كان مغمورا بل لا يكون مغلوبا إلا بالنقص والخبال ولا مغمورا إلا بالغلبة والانتقاض. ثم انظر في قول ما سرجس: من قصر عن طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهرة. كان حظه من الرغبة وحظه من الرهبة على مقدار حق الرهبة. ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الإستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وقدره، وانتفاعه به على حسب استحقاقه في نفسه.
وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضه عليك واستتاره عنك، وعلمت أني لا أقدر أن أصوره لك دون دهر طويل، ولا أضمنك معناه دون تربيب كثير.
[41- فوائد هذا الكتاب]
هذا الكتاب مرض مع ما فيه من الأخلاط من أشكال وأضداد، ومن الجد والهزل، ومن الحظر والإطلاق، ومن الاستئناف والقطع، ومن التحفظ والتضييع، ومن التثبيت والتهاون، إذا أريد به تقريع معجب أو تكشيف مموه، أو امتحان مشكل، أو تخجيل وقاح، أو قمع ممار، أو ممازحة ظريف، أو مساءلة عالم، أو مدارسة حافظ، أو تنبيها على الطريق، أو تجديدا للذهن.
[42- حاجة العقل الى الشحذ]
والعقل حفظك الله أطول رقدة من العين، وأحوج الى الشحذ من السيف، وأفقر الى التعهد، وأسرع الى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل، وعلاجه أعضل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثم معرفة وجوه المطالب، ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز. والمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب، فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالا ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه- هذا جماع هذا الباب وجمهوره وأقسامه وجملته. ثم من أنفع أسبابه الحفظ لما قد حصل والتقييد لما ورد والانتظار لما يرد أن لا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فضل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بمكنونه ولا يسمح بسره ومخزونه إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب وصانه عن التبذل، وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. وكان يقال: من شاب شيب له وخصلة ينبغي ان تعرفها وتصطنعها وتذكرها وتقف عندها وهي ان تبدأ من العلوم بالمهم، وان تختار من صنوفه ما انت له انشط والطبيعة به اعنى، فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاطه وتمييز أجناسه والمعرفة باقداره حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخيطر النفيس، ولا تلقى إلا الغث الخسيس والحقير السخيف، فانك متى كنت كذلك لم تميز فضل ما بين النظرين ولا فرق ما بين النعتين. والكيس كل الكيس والحذق كل الحذق أن لا تعجل ولا تبطيء وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن تعلم أن الأناة خلاف الإبطاء، وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه.
[43- الخاتمة!
هذا جملة العذر في هذه الرسالة، وجملة الحجة فيما قدمنا من الافتنان والإطالة. فان كنا أصبنا فالصواب أردنا وإلى غايته أجرينا، وإن كنا قد أخطأنا فما ذلك عن فساد من الضمير ولا عن قلة احتفال بالتقصير. ولعل طبيعة خانت، أو لعل علة حدثت، أو لعل سهوا اعترض، أو لعل شغلا منع.
خفض عليك أيها السامع فان الخطأ كثير غامر ومستول غالب، والصواب قليل خاص ومقموع مستخف. فوجه اللائمة الى أهلها وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور. كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة فلما خرجت الأفعال باسرها من العادة صارت بأسرها عجبا، فبدخول كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب. وقد ذكر الله تعالى التعجب في كتابه، وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وفي الناس يومئذ الناقص والوافر والمشوب والخالص والمستقيم والمعوج. قال الله تبارك وتعالى لنبيه وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ
وقال بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
واعلم أنه لم يبق من المتعجب القائل إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع القائل إلا حصة السمع. وأما القلوب فخاوية قاسية وراكدة جامدة، لا تسمع داعيا ولا تجيب سائلا قد أغفلها سوء العادة واستولى عليها سلطان السكرة. فدع عنك ما لست منه فان فيما أورده عليك شغلا وهما داخلا.
إعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقي بعض أمورها وحبس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري، لكنه جل ذكره مسخ الدنيا مسخا متتبعا ومستقصى مستفرغا، فبين حاليهما جميع التضاد، وبين معنييهما غاية الخلاف. فالصواب اليوم غريب وصاحبه مجهول. فالعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرت عونا عليه مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد رفدته، ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة ولا التأنيس ولا التعزية، وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه وأجتث أصله. وقد كان يقال: من طلب عيبا وجده. هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فان أنصفت فقد أغربت، وإن جرت فلم تعد ما عليه الزمان. وهب الله لنا ولك الإنصاف وأعاذنا وإياك من الظلم.
والحمد لله كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل. 21- هامش كتاب التربيع والتدوير
(1) لم يبدأ الكتاب بالمقدمة التقليدية التي عهدناها في كتب الجاحظ. هذا يدل على انها حذفت، وان قسما من الكتاب بتر. ومطلع الكتاب المتعلق بالتعريف باحمد بن عبد الوهاب المثبت هنا (حوالي اربع صفحات ساقط من طبعة عبد السلام هارون وموجود في طبعة السندوبي) .
(2) نجد مقدمة مبتسرة هنا: «بسم الله الرحمن الرحيم: اطال الله بقاءك واتم نعمته عليك وكرامته لك» . هذه المقدمة ارجح انها مقحمة من قبل الناسخ وليست للجاحظ.
(3) قوله ان احمد بن عبد الوهاب لا يتورع عن مطاولة ابي جعفر اي محمد بن عبد الملك الزيات ومخاشنته ومنافرته في المجالس الحافلة بكبار الحكام، ولا تحدي الجاحظ والتطاول عليه، يبين لنا الدافع الذي حفزه على كتابة هذه الرسالة. لقد ضاق ذرعا من تطاول هذا الكاتب المعتد بنفسه فشن عليه هذه الحملة من السخرية والاستهزاء والتقبيح والتشنيع.
(4) لاحظ كيف يهزأ من كبرسن احمد بن عبد الوهاب فيتهمه بالخرف ويقارن عمره المديد باعمار الهيولى (المادة الأولى للعالم عند ارسطو والمشائين وهي قديمة وليست حادثة) ونسر لقمان.
(5) الطوفان كما جاء في الكتاب المقدس والقرآن. وسيل العرم الذي نتج عن انهيار سد مأرب في اليمن. وقد القى الجاحظ اضواء على ما يتعلق بالطوفان مثل سفينة نوح وغرابه، والقبائل التي بادت بسببه.
(6) معلومات تاريخية قديمة تتعلق بجرهم وطويس وهرمس وارميا او الخضر ويحيى إبن زكريا وسوس المنتظر، وقير وعيرى، واولاد السعالى، وقحطان وعدنان وقضاعة وحمير وطيء وهاروت وماروت.
(7) في الطبيعة يطرح اسئلة محيرة مثل الماء وتكونه ونضوبه، وعمل الفلك في عالم الارض، وكيف تفرق الناس الى اعراق مختلفة الالوان، وسر الوراثة والشبه بين الاب والابن.
(8) علم الحياة يطرقه باب الجاحظ فيتساءل عن أطول المخلوقات عمرا: الانسان ام الحية ام الضب. ومتى يتوقف النسر عن السفاد والتناسل، ولم لا ينسل البغل.
(9) وعلم الآثار يحتل مركزه من اهتمام الجاحظ، فيسأل عن باقي كعبة نجران، وغمدان، وتدمر، والهرمين، ومأرب، والابلق الفرد في الحيرة ...
(10) اثر الأقليم في البشر، وعلى اي اساس قسمت الارض الى اقاليم، وما هو السبب في اختصاص سكان اقليم بمهنة دون أخرى.
(11) الاوثان ومكانها وزمانها مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ومناة والعزى والغبغب وعائم واساف ونائلة الخ..
(12) الفراسة والفأل والشجم او معرفة الغيب تشغل بال الجاحظ ايضا. فيسأل عن أسرار الكيمياء، والزجر، واسرار الكف، والنظر في الاكتاف، وقرض الفأرة، ودوائر الرأس، والتنجيم، والسبانح والبارح، ودماء الملوك للكلبي، وصرع الشيطان، وتلوث الغيلان الخ.
(13) الاسئلة حول معتقدات الشيعة تدل على شك الجاحظ فيها مثل عنفاء مغرب والشق الاحمر وثور الله في الارض وشعب رضوى وبيض الخفاش والجفر والرجعة والمناسخة والبداء.
(14) الجن وطبيعتهم وعملهم بالناس او علاقتهم بهم وبعض اسمائهم مثل شقلون واهرمن وافردش وابر شارش الخ..
(15) الكيمياء ومسائلها وادواتها وعناصرها يلم بها الجاحظ امثال الفرق بين الطاس والكأس، والاقبية، وصنعة الزجاج، والرخام، وصنع الذهب، والنوشاذر، والاصباغ الخ.
(16) هرمس الحكيم واهتمامه بالفلك، وافلاطون ومخالفته ارسطو اسئلة تدل على اطلاع الجاحظ عليهم.
(17) مساوىء المزاح كثيرة: السخف، التزيد، المكر، الخداع الخ.
(18) الجاحظ يطلب العفو من احمد بن عبد الوهاب لأنه مزح معه او سخر منه.
(19) للمزاح محاسن الى جانب المساوىء. لاحظ جدل الجاحظ. (20) الجاحظ يعمد الى مديح احمد بن عبد الوهاب ليكفر عن اساءته اليه بسخريته، ولكن مديحه جاء ساخرا او مقلوبا مثل مديح المتنبي لكافور الاخشيدي.
(21) لاحظ جمال احمد بن عبد الوهاب وتطبيق مفهوم الجاحظ الجمالي عليه «الاعضاء الموزونة والاجزاء المقدودة مع عدم التفاوت في الاحجام. (راجع نظرية الجاحظ الجمالية في كتابنا «نحو رؤية جديدة لفلسفة الفن) ولكن السخرية تبدو واضحة في قوله مثلا «وما ندري في اي الحالين انت أجمل، وفي اي المنزلين انت اكمل، اذا فرقناك ام اذا جمعناك، اذا ذكرنا كلك ام اذا تأملنا بعضك؟ فاما كفك فهي التي لم تخلق الا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها ويختال بها كل ما صار فيها..» .
(22) العودة الى حديث المزاح والجد برهان على خاصة الجاحظ الاستطرادية التي اتسمت بها آثاره الادبية خاصة.
(23) من شروط التمثيل ان يكون الشيئان متقاربين.
وانواع الخطأ ثلاثة: خطأ الحس وخطأ الوهم وخطأ الرأي. والمعرفة نوعان:
استنباطية وعيانية. (راجع نظريته في المعرفة وشروطها في كتابنا (المناحي الفلسفية عند الجاحظ، نظرية المعرفة) .
(24) الامامة عند الشيعة: يعود الجاحظ الى هذا الموضوع مرة ثانية لأن احمد بن عبد الوهاب كان شيعيا. وتجدر الاشارة هنا الى نبوءة الجاحظ بما آلت اليه الامامة عندهم وهي غيبة الامام الثاني عشر وهو المهدي المنتظر.
(25) يحتج الجاحظ لخاصة الاستطراد في أدبه بقوله ان الناس يملون الشيء الكثير ويستثقلون الطويل وان كثرت محاسنه وفوائده.
(26) الاسئلة حول المتنبي والنبي ودلائل النبوة بحثها الجاحظ واجاب عليها في كتاب حجج النبوة. فليراجع في كتاب رسائل الجاحظ الكلامية.
(27) انتشار الاديان بين الشعوب والقبائل مثل تنصر النعمان ملك الحيرة، وتهود ذي نواس ملك اليمن، وتمجس ملوك سبأ في اليمن.
(28) عودة الى الحديث عن العرافة والسحر عملا بالاستطراد الجاحظي.
(29) الاسئلة حول الذاكرة وعوامل النسيان تدل على اهتمام ابي عثمان بعلم النفس وقضاياه. وينبغي ان يكون قد بحث هذا الموضوع في بعض كتبه الضائعة.
(30) علم الرياضة لم يهمله الجاحظ وينبغي ان يكون قد الف فيه كما نستشف من اسماء كتبه الضائعة. وفي كلامه اشارة الى مصادر هذا العلم: الحساب اخذ عن الهند، والجبر ساهم به العرب لأن اسمه عربي.
(31) فن الموسيقى احبه الجاحظ ولكن لم يبلغ شهوته منه لماذا؟ ومن اعلامه فيثاغورس واقليدس وغيرهم. وممن اشتهر في الطرب والموسيقى الجرادتان وابو طيبة والسرباب وحبابّة وسلامة وعزة الميلاء وجميلة الحدباء الخ..
يذكر الجاحظ اسماء عدد من الكتب المعربة التي لم يعرف اصحابها امثال كتاب كلوريد الضخم (الف مجلد) المجوسي الاصل، وكتاب الطرق الرومي الاصل، وكتاب اسرار الهند، ولعبة الشطرنج، وكتاب كليلة ودمنة.
(32) موضوع المعرفة حظي باهتمام الجاحظ كموضوع مستقل. ويبدو الجاحظ حائرا في تحديد مركز العقل هل هو الدماغ او القلب. ودور الحواس في المعرفة.
(راجع رسالة الجوابات في المعرفة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية) .
(33) علم البصريات والمرائي (جمع مرآة) لم ينسه الجاحظ. وهو يسأل عن طبيعة الصورة الثابتة في المرأة، هل هي عرض او جوهر وحقيقة او تخييل.
(34) الالوان وحقيقتها بحثها الجاحظ في كتاب الحيوان. وهو يسال عن الوان الكواكب، وعلاقة الاشكال بالالوان. والوان القمر وشبهه بالأرض.
(35) القيافة او علم تتبع الأثر، في التراب والجو والماء، ومن اشتهر بها من بني مدلج وخثعم وخزاعة وقريش.
ويطرح اسئلة على طبيعة الظلام.
(36) أسئلة فزيولوجية حول وجود وعدم وجود بعض الاعضاء الداخلية في اجسام حيوانات معينة كالفرس الذي لا طحال له، والبعير بلا مرارة، والسمكة بلا رئة الخ. وقد وردت هذه المسائل في كتاب الحيوان للجاحظ.
(37) عودة الى الشيطان والسحر مرة ثالثة دليل على شك الجاحظ في الموضوع، وعلى نهجه الاستطرادي.
(38) الاسئلة التي يطرحها هنا على عجائب الحيوانات شكلت الغرض الاساسي في كتابه الحيوان. وقد كان كلفا باستقصاء تلك العجائب لاظهار حكمة الله في خلقه.
(39) يخبرنا الجاحظ ان جميع هذه المسائل قد بحثها في كتبه المختلفة ومن يقرأها يعثر على الاجوبة المطلوبة. ويحث على قراءتها.
(40) هذه المجموعة من حكم الفلاسفة تبرهن على اهتمام الجاحظ بالفلسفة اليونانية وموضوعاتها.
(41) لا ينسى الجاحظ ان يمتدح كتابه ويبين فوائده بايجاز. فهو على الرغم مما فيه من اخلاط واضداد وسخرية واستطراد ينفع في مساءلة العالم وممازحة الظريف ومدارسة المتعلم، ثم هو يشحذ الذهن.
(42) ان العقل بحاجة الى شحذ اكثر من السيف. هذا الرأي ابداه الجاحظ اكثر من مرة في كتبه، راجع حجج النبوة، والمعرفة الخ ...
(43) في الخاتمة يعتذر الجاحظ من الاطالة والافتنان والجدل والخطأ بسبب علة حدثت او سهو اعترض او شغل منع.
[1- التعريف باحمد بن عبد الوهاب وذكر موضوع الرسالة]
كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدّعي أنه مفرط الطول. وكان مربعا وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدورا. وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه أخمص البطن معتدل القامة تام العظم. وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدّعي أنه طويل الباد رفيع العماد عادي القامة عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم. وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان أدعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإنابة عنها على قدر غباوته فيها.وكان كثير الاعتراض، لهجا بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبة، متتايعا في العنود، مؤثرا للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء [ومحنة] فساد القلوب ونكد الخلاف، وما في الخوف من اللغو الداعي إلى السهو، وما في المعاندة من الاثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في المغالبة من فقدان الصواب. وكان قليل السماع غمرا وصحفيا غفلا لا ينطق عن فكر ويثق بأول خاطر ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق. يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الإنتحال لاسم الأدب.
فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والبادي وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. كأنه لم يسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب بن صيفي: «هذا شريكي الذي لا يشاري ولا يماري» . ولا بقول عثمان: إذا كان لك صديق فلا تماره ولا تشاره، ولا بقول ابن أبي ليلى: لا أماري أخي إما أن أكذبه وإما أن أغضبه. ولا بقول ابن عمر: لا يصيب الرجل حقيقة الايمان حتى يترك المراء وهو محق. وكأنه لم يسمع بقول الشاعر:
خلافا علينا من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم خالف فتذكرا
ولم يسمع بقول الأول: رآه معدّا للخلاف. ألبيت. ولا بقول الآخر:
لنا حاجب مولع بالخلاف ... كثير المراء قليل الصّواب
ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
وقالوا: فلان أخلف من بول الجمل. ولذلك قال الشاعر:
واخلف من بول البعير فإنّه ... إذا قيل للاقبال أقبل أدبرا
قال رجل لزهير البابي: أين نبت المراء؟ قال: عند أصحاب الأهواء.
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وكان عمر بن هبيرة يقول: أللهم إني أعوذ بك من المراء وقلة خيره، ومن اللجاج وتندم أهله. وقال بعض المذكورين: أللهم إنا نعوذ بك من المراء وقلة خيره وسوء أثره على أهله، فانه يهلك المروءة ويذهب المحبة ويفسد الصداقة ويورث القسوة ويضرّي على القحة، حتى يصير الموجز خطلا والحليم نزقا والمتوقي خبوطا، والصدوق كذوبا. والمراء من أسباب النضب، وأقرب ما يكون الرجل من غضب الله إذا غضب كما أنه أقرب ما يكون من رحمة الله إذا سجد. لقول الله عز وجل: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
وقال لقمان لابنه: إياك والمراء فإنه لا تعقل حكمته ولا تؤمن لهجته.
وقال آخر: ألمراء غضبة والصمت حكمة، ولو كان المراء فحلا والفخر أما ما ألقحا إلا الشر. وقال الشعبي: إني لاستحيي من الحق أن أعرفه ثم لا أرجع إليه. وقال ابن عيينة قال الحسن: ما رأيت فقيها قط يداري ولا يماري، إنما ينشر حكمته فان قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله. عن ابراهيم بن إسماعيل بن عائذ بن المبارك بن سعيد قال: قال مجاهد: صحبت رجلا من قريش ونحن نريد الحج فقلت له يوما: هلم نتفاتح الرأي؟ فقال: دع الود كما هو. فعلمت والله أن القرشي قد غلبني. وقال إسحاق الموصلي: كثرة الخلاف حرب، وكثرة المتابعة غش.
[2- وصف ساخر لجسم أحمد بن عبد الوهاب المربع المدور]
بسم الله الرحمن الرحيم: أطال الله بقاءك وأتم نعمته عليك وكرامته لك. قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج، وإنما يحسد أبقاك الله المرء شقيقه في النسب، وشفيعه في الصناعة، ونظيره في الجوار، على طارف قدره أو تالد حظه، أو على كرم في أصل تركيبه ومجاري أعراقه وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، وأن لك الكل وللناس البعض، وأن لك الصافي ولهم المشوب. هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه. فما هذا الغيظ الذي أنضجك، وما هذا الحسد الذي أكمدك، وما هذا الإطراق الذي قد اعتراك، وما هذا الهم الذي قد أضناك؟ وهل رأيت أخسر صفقة ولا أوهن قوة ممن يجري العتاق مع الكوادن، والروائع مع الحواسر، وممن حاكم من يسالمه، وجاذب من يقلده؟ وهل رأيت مكينا يقلق ومصنوعا له يسخط، وهل زدت على أن أطمعت في نفسك ومكنت للشبهة في أمرك، وأنشأت للخامل ذكرا وللوضيع قدرا؟ إنك لا تعرف الأمور ما لم تعرف أشباهها، ولا عواقبها ما لم تعرف أقدارها ولن يعرف الحق من يجهل الباطل، ولا يعرف الخطأ من يجهل الصواب، ولا يعرف الموارد من يجهل المصادر! فانظر لم تسالمت النفوس مع تفاوت منازلها، ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها، ولم اختلف الكثير واتفق القليل، ولم كانت الكثرة علة للتخاذل والقلة سببا للتناصر. وما فرق ما بين المجاراة والتحاسد وبين المنافسة والتغالب؟ فإنك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا أن نستريح منك، وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب، وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول، وكيف يعرف الحجة من الشبهة والعذر من الحيلة والواجب من الممكن والغفل من الموسوم والمعقول من الموهوم، والمحال من الصحيح والأسرار المجهولة من ذوات الدلائل الخفية، وما يعلم ما لا يعلم وما يعلم باللفظ دون الإشارة مما لا يعلم إلا بالاشارة دون اللفظ، وما يعلم معتقدا مما لا يعلم مكينا وما يعلم مكينا مما لا يعلم معتقدا، وما المستغلق الذي يجوز أن يفارقه استغلاقه والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه، ومن هو طائر مع العوام حيث طارت وساقط معها حيث سقطت مع الزراية عليها والرغبة عنها، قد ظلمها بفضل ظلمه لنفسه وجرى معها بقدر مناسبتها القدرة. فاعرف الجنس من الصنف والقسم من النصف، وفرق ما بين الذم واللوم، وفصل ما بين الحمد والشكر وحد الاختيار من الإمكان والاضطرار من الايجاب. وسنعرفك من جملة ما ذكرنا بابا أنت إليه أحوج وهو علينا أردّ.إعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة، كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي والبخل اسم لما قصر عن الإقتصاد، والسّرف ما جاوز الجود. وأنت جعلت فداك لا تعرف هذا ولو أدخلتك الكير ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور. وهل في الأرض إقرار أثبت أو دليل أوضح أو شاهد أصدق من شاهدي على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الضعة؟ وهل تكون بعد ذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود أو جاهلا بالمحال..!؟
وبعد فأنت أبقاك الله في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني. وهو قياسك الذي إليه تنسب ومذهبك الذي إليه تذهب، أن تقول: وما عليّ أن يراني الناس عريضا وأكون في حكمهم غليظا وأنا عند الله طويل جميل وفي الحقيقة مقدود رشيق! فقد علموا حفظك الله أن لك مع طول الباد راكبا طول الظهر جالسا، ولكن بينهم فيك اذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل. ومن غريب ما أعطيت وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقا مستفي الخاصرة سواك! فأنت المديد، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب.
فيا شعرا جمع الأعاريض ويا شخصا جمع الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضا قد استغرق ما ذهب منك طولا. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإذ قد سلّموا لك بالرغم شطرا ومنعوك بالظلم شطرا فقد حصلت ما سلّموا وأنت على دعواك فيما لم يسلّموا. ولعمري إن العيون لتخطيء، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة الا للعقل إذ كان زماما على الأعضاء وعيارا على الحواس. ومما يثبت أيضا أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي دواد الإيادي في إبله:
سمنت واستحشّ أكرعها ... لا النّيّ نيّ ولا السّنام سنام
وقول رافع بن هريم:
أدقّ شواها عند بهرة جوفها ... سنام كقصر الهاجريّ مقرمد
ولو لم يكن من العجب إلا أنك أول من تعبده الله تعالى بالصبر على خطأ الحس وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك منارا للضالين: وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد ومن القصير مثل أحمد إذ زعم محمد أنه إنما أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضافة لأن إفراط طوله غمر الإعتدال من عرضه. وزعم أحمد أنه إنما أفرط في العرض ونسب إلى الغلظ لأن افراط عرضه غمر الإعتدال من طوله. وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتلال. والمربوع بحمد الله قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر! فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال. وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدا ذم المربوع ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه، ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال، ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد، ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند، ومن يماري في العيان إلا الجاهل! بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله جل ثناؤه «ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت» .
وبعد، فأي قدّ أردى وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر وطول مجاوز للقصد؟ ومتى لم يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسد من التقدير وجاوز التعديل. وإذا خرج من التقدير تفاسد، وإذا جاوز التعديل تباين! ولئن جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لقاسم التّمّار من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.
وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت لعرضك في الحكومة. على أنك باعتلالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان متعرض للصدق من المتكرم ومتحكك بالحكم من المتغافل! وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب، وأي ناطق لا يغريه هذا القول! وإذا كان هذا ناقضا لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف! فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء أو تنقض عزائم الحلماء! وما أدري حفظك الله في أي الأمرين أنت أعظم إثما، وفي أيهما أنت أفحش ظلما، أبتعرضك للعوام، أم بافسادك حكم الخواص.
وبعد، فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثير، ومن ينصرك منهم غير قليل. وقد رأيتك زمانا تحتج بالنعمان بن المنذر، وبضمرة بن ضمرة، وبمجّاعة بن مرارة وبمجّاعة بن سعر، وبأوفى بن زرارة، وبعبد الله بن الجارود، وبعلباء بن الهيثم، وبسعيد بن قيس، وبأبي اليسر كعب بن عمرو، وبحسكة بن عتّاب، وبمخارق بن غفار، وبعمران بن حطّان، وبيوسف بن عمر، وباياس بن معاوية، وبمعن بن زائدة، وبعقبة بن سلم، وبرجال ناهيك بهم رجالا وبأعلام كفاك بهم أعلاما.
ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشدة والصلابة فقصار كل شيء أشد ضررا وأدق مدخلا وأظهر قوة وجلدا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وكالبعوض أضرها القرقس وكالعقارب أقتلها الجرارات وكذلك أحرار الطير وبغاثها وصغار البراغيث وكبارها.
وقلت: إن كان الفضل في العدد فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومنا الدعاميص والبعوض، ومنا الرمل والتراب وقطر السحاب.
واحتججت بأن الحسن والفضل لصغار ما في الأنسان كالناظرين والانثيين وحبة القلب وأم الدماغ. وزعمت أن الإنسان إذا طال جسمه وامتد شخصه أسرع الإنهدام إلى بدنه والإنحناء إلى ظهره، وأن القصير لا يتقوس ظهره ولا يميل عنقه ولا يضطرب شخصه ولا تعوج عظامه، ويسعه كل باب ويقطعه كل ثوب ولا تخرج رجلاه من النعش ولا تفضلا عن الفراش، وهو بعد أخف على القلوب وأخلط بالنفوس وأبعد من السماجة وأدخل في كل باب ملاحة.
وقلت: وتقول الناس: ما هو إلا فلفلة، وما هو إلا زنبقة، وما هو إلا شرارة، وما لسانه إلا لسان ضبة. ولم أزل أراك تقدم العرض على الطول وتزعم أن الأرض لم توصف بالعرض دون الطول إلا لفضيلة العرض على الطول. وذلك كقول الشعراء ووصف العلماء، وقال الشاعر:
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل
ولم يقل: كأن بلاد الله وهي طويلة. وقال آخر:
وفي الأرض للمرء العريضة مذهب ولم يقل: الطويلة. وقال:
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... على الأرض ذات العرض أن توسعا
وقال الراجز:
تقطع أرضا وتلاقي أرضا ... إنّ البلاد غلبتني عرضا
ولم يقل: طولا. وقلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول جل ثناؤه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
. فهذه براهينك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى أن ما عند الله خير لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا أبقاك الله أتعشق إنصافك كما أتعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين، ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين، وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الإختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم، إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار، وأشد ما تكون إلى الحيلة فقرا أشد ما تكون للحجة طلبا، إلا أن ذلك بطرف ساكن وصوت خافض وقلب جامع وجأش رابط وبنية حسنة وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم! إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشعب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب، تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتخلص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حقه من المعنى، وتحب المعنى إذا كان حيا يلوح وظاهرا يصيح، وتبغضه إذا كان مستهلكا بالتعقيد ومستورا بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما أغرق المعاني وأخفاها وأسرها وعمّاها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض. واعجب الألفاظ عندك مارق وعذب وخف وسهل وكان موقوفا على معناه ومقصورا عليه دون ما سواه، لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤونة واستغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقا وبالمجاذبة موادعة، وتهنؤوا بالعلم وتشفوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذل المخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان. فقد قالوا. وكأنه المشتري، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث وكأنه الشمس، وكأنها دارة قمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة. فقد تراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل:
وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فان التدوير عليه أغلب، لأن التدوير قائم فيه موصولا ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولا. وكذلك الانسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أكره على تركيبه دون ما (خلي وسوم طبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور.
فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم انك طويل في الحقيقة ثم تحتج للإستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحا، ولهجت بما عند الناس. فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه، إلى ما أبانك الله به من الشكلة فانها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام. وقال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطّير شكل عيونها
وقال آخر:
وشكلة سين لو حبيت ببعضها ... لكنت مكان النّجم مرأى ومسمعا
فأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطبع وفهم المشكل قبل التأمل، مع وهن الكبر وتقادم الميلاد، ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان، فمن توتياء الهند وترك الجماع، ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة. فأنت يا عم حين تصلح ما أفسد الدهر وتسترجع ما أخذت منك الأيام، لكما قال الشاعر:
عجوز ترجّى أن تكون فتيّة ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدسّ إلى العطّار ميرة أهلها ... وهل يصلح العطّار ما أفسد الدّهر
[3- مراء احمد بن عبد الوهاب]
وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد سقيته قبل المجاج، وكيف أرجو إقرارك جهرا وقد أبيته سرا، وكيف تجود به صحيحا مطمعا وقد بخلت به مريضا مؤيسا، وكيف يرجو خيرك من يراك تطاول أبا جعفر وتخاشنه وتنافره وتراهنه، ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام وبحضرة كبار الحكام، ثم تستغرب ضحكا من طمعه فيك وتعجب الناس من مجاراته لك، وأشهد لك بعد هذا أنك ستخاشن عمرو بن بحر وتعاقله ثم تظارفه وتطاوله، وتغني مع مخارق وتنكر فضل زرزور، وتستجهل النظّام وتستبرد الأصمعي، وتستغبي قيس بن زهير، وتستخف الأحنف ابن قيس، وتبارز أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء، ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى! هذا وليس لك مساعد ولا معك شاهد واحد ولا رأيت أحدا يقف في الحكم عليك أو ينتظر تحقيق دعواك، ولا رأيت مبصّرا يخليك من التأنيب، ولا مؤنبا يخليك من الوعيد، ولا متوعدا يخليك من الإيقاع، ولا موقعا يرثي لك، ولا شافعا يشفع فيك.[4- الهزء من كبر سن احمد بن عبد الوهاب]
يا عم لم تحملنا على الصدق، ولم تجر عنا مرارة الحق، ولم تعرضنا لأداء الواجب، ولم تستكثر من الشهود عليك، ولم تحمل الاخوان على خلاف محبتهم لك؟ إجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك، وبدل ما تضطر الناس إلى أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك.ولا بد يرحمك الله لمن فاته الطول من أن يلقي بيده أو من أن يقول بخلاف ما يجد في نفسه. فو الله إنك لجيد الهامة، وفي ذلك خلف من حسن القامة، وإنك لحسن الحظ، وفي ذلك عوض من حسن اللفظ، وإنك لقليل الشيب قليل البول، وإنك لتجد مقالا، وإنك لتعد خصالا. فقل معروفا فإنا من أعوانك، وأقتصد فإنا من أنصارك، وهات فانك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت. ولكنك تجيء بشيء: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
ولو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك، ولربما عذرتك ولان جانبي لك فأقول:
خرف الشيخ إذا كان جادا، وعبث إن كان هازلا. وقد يعجل الخرف إلى أحدث منك سنا ويبطيء عن أطول منك عمرا. بل من هذا الذي يعد من السنين ما تعد وبلغ من الكبر ما بلغت؟ وعند من يدرك هذا العلم إلا عند النجوم أو عند إبليس الرجيم، بل من يعرف ذلك إلا فاطر السموات والأرض. لو عرفت عقبان خطفة ونسور السراة وأحناش الرمل وعير العانة وورشان الغابة وشيوخ اليمامة وهرمي فرغانة، إنك لا تعد عمر نوح عمرا ولا النجوم يوما، وإنك قد فت التاريخات وجزت حساب الباورات واستقللت الأحقاب وخرجت من خطوط الهند لما استطالت بأعمارها ولا فرحت بطول أيامها! فيا قعيد الفلك كيف أمسيت، ويا قوة الهيولى كيف أصبحت، ويا نسر لقمان كيف ظهرت، ويا أقدم من دوس ويا أسن من لبد ويا صفي المشقر ويا صاحب المسند.
[5- اسئلة على الطوفان]
حدثني كيف رأيت الطوفان، ومتى كان سيل العرم، ومذ كم مات عوج، ومتى تبلبلت الألسن، وما حبس غراب نوح، وكم لبثتم في السفينة، ومذ كم كان زمان الخنان ويوم السلان ويوم خزاز ووقعة البيداء. هيهات! أين عاد وثمود، وأين طسم وجديس، وأين أميم ووبار، وأين جرهم وجاسم، أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق، ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن اللحف، وأي هذه الأودية أقدم، أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان أم مكران، وأين تراب هذه الأودية، وأين طين ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها، في أي بحر كبست وفي أي هبطة شحنت، وكم نشأ لذلك من أرض وحدث من عين؟[6- اسئلة تاريخية]
جعلت فداك، من أبو جرهم، ومن رهط الدجال، وهل تعرف له شبيها؟ أين طويس، وما قصة ابن صائد، ومن سوشى المنتظر. وخبرني عن هرمس أهو إدريس؟ وعن أرميا أهو الخضر؟ وعن يحيى بن زكريا أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين أهو الإسكندر؟ ومن أبوه ومن أمه، ومن قيرى وعيرى، ومن جلندى، ومن أولاد الناس من السعالي، وما الحوش من الابل، وخبرني عن قحطان، ألعابر هو أم لإسماعيل. وعن قضاعة، ألمعدّ بن عدنان أم لمالك بن حمير. ومتى تخزعت خزاعة، ومتى طوت المناهل طيء، ومن ابن بنصر، وما تلك السبيل، وما قصة الزهرة، وما شأن سهيل، وما القول في هاروت وماروت، وما شأن الإربيانة، وما قصة الفأرة وجرم الوزغة، وما إحسان الحمامة، وما تفريط العظاية، وما خصب الضفادع، وما تسبيح الصرد، وما عداوة ما بين الديك والغراب، وما صداقة ما بين الجن والأروية، ومن أين لها الماء، وما بلغ من عقل الهدهد، وأين قبر أمه، ولم نتنت ريحه.وخبرني عن الأمة التي مسخت ثم فقدت، ممن كانت وإلى أي شيء صارت! أأخذت برا أم بحرا؟ فإن كانت بحريّة أفهي الجرّيّ، وإن كانت برية أفهي الضباب؟ وما آوى، وما حبين، وما عرس، وما أوبر، وما وردان، وما قصة الطراثيث، وما سبب كون السنانير، وما علة خلق الخنزير، وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء؟ وكيف لم يقتل الأفعى سمها، وكيف لم يحرق الشمس ما عند قرصها.
وخبرني عن الأبدال، أهم اليوم بالعرج أم ببيسان أم كما كانوا متفرقين، وخبرني أكلهم موال أم كلهم عرب أم هم أخلاط، وما فعل صاحب إنطاكية ولم أقيم سلمان بعد بلال، ومن جعل بعد سلمان، ومن عشائرهم وأين دورهم وأين أهلوهم، وكيف لم يتقدموهم ويتفقدوهم، وكيف صارت بيسان لسان الأرض يوم القيامة! وكيف صارت كبد الحوت أول طعام أهل الجنة، ولم تسمى نونا، وهل الرجفة من حركته، وهل الزلزلة من تنقله، وما الخسف، وكيف شاهدت المسخ على طول الأيام، أنقلبت خلقتهم أم صار ذلك ضربة واحدة، وهل عاشوا أم أبلسوا أم تركوا ثلاثا ثم أبطلوا، وهل كانوا يتعارفون بعد المسخ ويعرفون بعض ما قد نزل بهم بعد القلب.
وخبرني عن بحار بنطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن المظلم، وعن جبل الماس، وعن الباكي، وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف، ومذ كم كان زمن الفطحل، وأين كان ملك الأزد، وأين كان من ملك الإشكان، وأين كان من ملك بني ساسان، وأين كان خره أردشير من استاشف، وأين كان أبرويز من أنو شروان، وأين جذيمة من تبّع، وأين الفتجب من بلهره، وأين بغبور من قيصر. وخبرني عن الفراعنة، أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة أهم من قوم عاد. وخبرني أهم من عاد الأولى أو من عاد الأخرى؟ وخبرني عن عطارد الهندي وجوابه لعطارد السماوي حين هبط إليه من فلكه، وهل جرى بينهما إلا ما سمعنا ومذ كم كان ذلك.
وخبرني: كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أفرغ في إنائه، أكان بحرا أجاجا استحال عذبا زلالا، أم كان زلالا عذبا استحال أجاجا بحرا؟
خبرني: كيف صار الماء أبعد من الفلك ولا يكون إلا في بطن الأرض، وهو أشبه بالهواء كما أن الهواء أشبه بالنار، وكيف يكون أحق بالوسط والأرض أبعد من سية الفلك، وكيف طمع جعلت فداك الدهري في مسألة العلاة والمطرقة وفي البيضة والدجاجة، مع تقادم ميلادك ومرور الأشياء على بدنك، وكيف كان بدء أمر البدّ في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم، وقصة عمرو بن لحى في العرب.
وخبرني عن عناق بنت آدم، وعن ميسرة ومسرة، وعن مهنه ومهنينة، وعن بهيا وطبحيا، ومذ كم عمرت جزيرة العرب، ومذ كم بادت يونان، وعن فصل ما بين السند والهند، والهند والميد، وعن جميع من هلك بالرّعاف، وعن من أفناهم النمل، وعن من أجحف بهم السيل، وعن أصحاب النعمان كم صنفهم، وما تقول في الرجم السماوي أكان من عظام البرد أم كحجارة الطير الأبابيل التي خلقت من سجيل؟
[7- اسئلة طبيعية]
وخبرني: عن معنى الفرات على حقه وصدقه، وعن نضوب البحر، وعن تنقص الأرض، ولم عمل الفلك في هذا العالم وليس بينهما شبه! وهلا عمل فيه بقدرة منه، وهل يجوز أن يعمل شيء في شيء إلا والآخر يعمل فيه. وخبرني: مذ كم كان الناس أمة واحدة ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطن أسودّ الزنجي وابيض الصقلبي، ولم صار اللون أسرع تنقصا من الجمود، ولم كان الولد يجيء على شبه ما في أبيه من الأمور الحادثة في بدنه غير القديمة في أصل تركيبه، ومع ذلك لم يولد صبي قط في العرب مجنونا، وما هذه الخاصية التي منعت من هذا المعنى؟. وفي كم تمت لكل فرقة بعد التبلبل لغتها واستفاض لسانها.[8- اسئلة على علم الحياة]
خبرني: جعلت فداك، أيما أطول عمرا: الناس أم عير العانة أم الحية أم الضب، ومتى تستغني الحية عن الغذاء، ومتى ينتفع الضب بالنسيم، ومتى ينقطع النسر عن السفاد، وكيف صار البغل لا ينسل وهو ولد الرمكة من العير، وكذلك السّمع لا ينسل وهو ولد الضبع من الذئب، والراعبي ينسل وهو ولد الحمام من الورشان، والبختي ينسل وهو من ولد [الغراب] من الفوالج، ولم يسمع في الظلف إذا اختلفت ولم يسمع في الحافر ولا في الخف إذا اختلف. وخبرني عن الزّرافة أمن ولد الناقة أم من الضبع، وعن الشّبّوط أمن ولد البنّي من الزّجر. وخبرني: ما عنقاء مغرب وما أبوها وما أمها، وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى، ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى، ومتى تمهد لذلك الصبي، ومتى تظل بجناحها شيعة الإمام، ومتى يلقى في فيها اللجام، ومتى يباع له الكبريت الأحمر ويساق إليه جبل الماس.وخبرني عن بناء سور الأبلة وعمن حير الحيرة، ومن أنشأ بنيان مصر، ومن صاحب كربنداذ ومدينة سمرقند. وخبرني: عن البناء الذي يضاف بالمدائن إلى سام، أهو لسام؟ وعن تدمر أهو لسليمان! وأين ملك أخاذ بن عمري من ملك نمرود الخاطيء، وأين وقع ملك ذي القرنين من ملك سليمان.
وقد كنت أطال الله بقاءك في الطول زاهدا وعن القصر راغبا، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبا للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا جعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان، والضبّاب، وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله، فإن كان هذا الأمر حقا وكان هذا العلاج نافعا وكنت له مستعملا وفيه متقدما وتراه رأيا وإن كنت عنه غنيا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأذن وأذنك أذن أبي سهيل، وأنا دقيق العنق وعنقك عنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت، وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض..!؟
جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يحدث لهما الجدّة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما وعمر طول عمرك أعمارهما ذلا بعد العز وهانا بعد الكرامة، ومالي فيك قول إلا قول الاعرابي حين ضل الطريق في الظلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جملك الله وقد جملك، أم أقول عمرك الله وقد عمرك؟ .. ولكن أقول:
وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعا، وأقول ما قلت إلا لغوا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يساكن الانسان في منزله وربعه وفي داره وموضع منقلبه إلا والانسان يفضله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والابل. وزعموا أن أقصرها أعمارا العصافير، وأن أطولها أعمارا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السفاد، وفي قصر عمر العصافير كثرة السفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويثبت هذه القضية ما يعم الخصيان من طول العمر، ويعم الفحولة من قصر العمر. وما أرى حفظك الله بهذا القياس بأسا في ظاهر الرأي وما أجده بعيدا في أغلب الظن، ولو كنت أقتل ذلك علما وأعلمه يقينا لكان أحب الأمور إلى أن يكون لي فيه سلف صدق وإمام لا يغلط، وأن أحكيه عن معدل وأسنده إلى مقنع! فقل نسمع وأشر نتبع! يعجبني- جعلت فداك- منك بغض الشهرة ودبيبك في غمار الحشوية استغناء بنفسك، وصونا لقدرك، ومعرفة بما أعطيت، وثقة بالذي أوتيت. وما أقل بحمد الله ما سبقك به إبليس، وما أيسر ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمة وناصرك عزة. وقد ذكرت الرواة في المعمرين وصنعت في ذلك أخبارا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة، ولا نقدر على ردها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النصب، وما في النصب من طول الفكرة وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكد. فافتح لبيتك بابا نسترح إليه، وأقم له علما نقف عنده. فقد علمت ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودويد بن نهد. وأنت أبقاك الله تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبرني أكذبوا أم صدقوا، أم اقتصدوا أم أسرفوا.
فأما ما رووا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسام عاد، فالشاهد على كذبهم حاضر، والدليل على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزجّة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضيق أوابهم وقصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العدمليّة، ويدل على ذلك الجرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رؤوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذا لما عنيناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادم ميلادهم وحدة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.
[9- اسئلة على الآثار القديمة]
وخبرني أبقاك الله من كان باني ريام، ومن أنشأ كعبة نجران، ومن صاحب غمدان، ومن باني تدمر، ومن صاحب الهرمين، ومنذكم بنيت مأرب، وأين كان الأبلق الفرد من المشقر، وأين قصر النوبهار من قصر سنداد، ومن صاحب عقرقوف ولم قضيت جعلت فداك لخمعة الإيادية على بنت الخس ولابن شرية على شقّ وللنخار على ابن النطاح، ولابن الكيس على ابن لسان الحمّرة؛ وأين كانت الزباء من ملكة سبأ، وأين خاتون من بوران، وأين جلندى من أسباد، وأين حذيم من أفعى، وأين كان لقيم من لقمان، وأين كان كرز بن علقمة من مجزّز المدلجي. وأين كان رافع المخش من دعيميص الرمل؟.[10- اسئلة على الاقاليم والسكان]
وخبرني عن عظامة أقاليم الخراب وعن خلاء شق الجنوب، أذلك قائم مذ دار الفلك وكان النمو، أو الدول بينهما مقسومة والأيام عليهما موقوفة! ولم قدمت إقليم دوس على إقليم بابل. وخبرني عن الشهب أتكون نهارا أم تكون ليلا، ولم قدمت الروم في الصنعة على أهل الصين، ولم قدمت تبّت على الزابج، ولم فضلت السكون على الحركة، ولم جعلت السكون فسادا والافتراق اجتماعا.؟ قد وجدتك جعلت فداك خفت أن تكون ابن صائد، ورجوت أن تكون الدجال، ولعلك دابة الأرض، وما أدري لعلك سوشى! ولست بحمد الله الخضر. والذي لا أشك فيه أنك غير المسيح، وأظن روحك روح شيقرة بل روح بلعذبون، بل روح دلالا، وأنك الأركون المنتظر.[11- اسئلة على الأوثان]
واحتمل لي مسألة واحدة ولا أعود وسأجعلها طويلة ولا ازيد: كم بين ود وسواع ويغوث ويعوق، وبين مناة والعزى والغبغب وعائم، وبين مناف ونهم وسعد ومنهب، ومذ كم نكح أساف نائلة، ومذ كم مسخا في الكعبة؟ وخبرني عن برهوت وبلهوت، وعن الجابية وموضع الطاغية، وعن سيف الصاعقة، ومن ألقى ذلك إلى الرافضة، وما كان مال قارون، وما كان كنز النطف، ولمن كانت البليهة، وما قرط مارية، وما أصل مال ابن جدعان وكيف كان مشورة أمه. وخبرني عن ذلك المال الذي من أخذ منه ندم ومن تركه ندم.[12- اسئلة على الفراسة ومعرفة الغيب والرئي]
جعلت فداك قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة وأغفالا وموسومة وسالمة ومدخولة، فما تخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المستبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل. وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها مصورة، ووجدت السبب كما وجدت المسبب، وعرفت الاعتلال كما عرفت الإحتجاج، وشاهدت العلل وهي تولد والأسباب وهي تصنع، فعرفت المصنوع من المخلوق، والحقيقة من التمويه. فما تقول في الرئي وما تقول في الرؤيا، وما تقول في أكسير الكيمياء، وما تقول في كيموس الصنعة وما تقول في الزجر، وما تقول في الفراسة، وما تقول في الفأل، وما تقول في الطّيرة وما تقول في نمت الطلم؟ وما تقول في معنى البركة، وما تقول في النجوم، وما تقول في الخيلان، وما تقول في أسرار الكف، وما تقول في النظر في الأكتاف، وما تقول في قرض الفأرة، وما تقول في إلحاح الخنفساء، وما تقول في دوائر الرأس، وفي أوضاح الخيل، وفي النمس والسنور، وفي الديك الأفرق والسنور الأسود، وفي البول في النفق، وفي الإطلاع في عاديّ الآبار، وفي النوم بين البابين، وما تقول في التميمة وفي الرتيمة وفي تعليق كعب الأرنب، وفي حلى السليم، وفي البلايا والولايا، وما تقول في الهامّ والاستمطار بالسّلع والعشر، وما تقول في شق البرقع، وفي بدر الرداء، وفي كي الصحيح عن ذي العر، وفي فقء العين للسواف وفي نزع المسر للعارة، وما تقول في الآمر والناهي والمتربص، وفي النطيح والقعيد والسانح والبارح، وما تقول في وطء المقلات للقتلى، وفي دماء الملوك للكلبى، وما تقول في صرع الشيطان، وفي تلون الغيلان، وفي عزيف الجنان، وفي ظهور العمّار، وفي طاعتهم للعزائم، وفي رئي المأمور الحارثي وعتيبة بن الحارث اليربوعي وما فصل ما بين العراف والكاهن والحازي والمتبوع، وما تقول في تحول إبليس في صورة سراقة المدلجى وفي صورة الشيخ النجدي؟ وخبرني عن شنقناق وشيصبان. وعن سملقة وزوبعة، وعن المذهب والسعلاة وعن بركوير ودركاذاب، وأين كان مسحل شيطان الأعشى من عمرو شيطان المنخلّ.!؟قد والله عافانا الله بك وابتلى، وأنعم بك وانتقم، فدحّا لمن زهد فيك وسقيا لمن رغب إليك وويل لمن جهل فضلك، بل الويل لمن أنكر فضلك.
إنك جعلت فداك كما لم تكن فكنت فكذا لا تكون بعد أن كنت، وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل، إذ كل طويل فهو قصير، وكل متناه فهو قليل، فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك، فان للشيطان في مثلك أطماعا لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك.
ولست جعلت فداك كابليس وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخمر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك، ولما ناقلته الكلام كما قلتي لك، وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك، ولأنك إن منعت شيئا فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والإرصاد، وأنت على حال أشكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين.
[13- اسئلة على معتقدات الشيعة]
وخبرني عن الشق، وعن واقواق، وعن النسناس، وعن دوالباي، وعن الكركدن، وعن عنقاء مغرب، وعن الكبريت الأحمر، وعن ثور الله في الأرض؟ وحدثني عن شعب رضوى، وعن جبال حسمى ومتى ترى الماء الأسود والجو الأكلف والطين الأزرق، وكيف ذلك النمر، وهل يظمأ ذلك الأسد، وهل باض الخفاش، وهل أمنت الحبارى، ومتى تتعلم ما في الجفر وتحكم ما في الزبر، وما فعل فحل وبار، ونعاج أبي المرقال، وما الحجة في الرجعة، والقول في المناسخة، ومن أين قلتم بالبداء، ومن أين جعلتم العلا فعلا والزيادة فلتا، وما القول في النفس؟وخبرني ما السحر وما الطلسم، وما الدنهش وما الخلقطير، وما الهيكل، وما الطوالق، وما قولهم في اللبان الذكر، وفي مراعاة المشتري، ولم توحشوا من الناس ولم باتوا بالبراح وأقاموا بالخراب واغتسلوا بالماء القراح، ولم قدموا التصديق وأخرجوا الصرة، ولم أجابوا وأكرموا، ولم منعوا وقتلوا.!؟
[14- اسئلة على الجن]
وخبرني من خانق الغريض وقاتل سعد يوم النفق، ومن الذي استهوى عمرو بن عدي، ومن صاحب عمارة بن الوليد، ومن يصرع منهم الأصحاء، ومن يبريء المرضى ويستوهي العقلاء، وعن فصل ما بين الشيطان والجني وما بين الجن والجن ومن طعامه الجدف. وخبرني عن أشعار الهاتف وما يسمع بالليل من جوائب الأخبار. وخبرني عن النميري صاحب الورقة، وعن تميم الداري صاحب الردم. وخبرني عن شقلون، وعن أهرمن، وعن كان وكان، ومره، وايددش، وافردش، وابرشارش، وابربارش، وخونرت بام، وكيف صارت خونرث هذه أعمر العوالم، وأيما أكثر يأجوج أم مأجوج، وأيما أقصر وأيما أطول عمارا، وأيما أفضل منكر أم نكير، وأيما أخبث هاروت أم ماروت، وأي حوت ابتلع يونس، وأي حية ابتلعت المهلب، ومن أي حية كانت سفينة نوح، ولم ملح الحمض، ولم طوقت الحمامة![15- أسئلة على الكيمياء]
وما فرق بين الطاس والكاس، وما كان سبب اتخاذ الأقبية، وما سبب صنعة الزجاج، وما قصة الرخام أكيمياء أم مخلوق، ولم امتنع عمل الذهب والزجاج أعجب منه، ومن صاحب المينا وتودين الحجارة، ومن صاحب التلطف، ومن صاحب النوشاذر، وما تقول في التنين وما فرانقث الاسد، وما صداقة ما بين الخنفساء والعقرب، وما بال السواد يصبغ ولا ينصبغ وما بال البياض ينصبغ ولا يصبغ، ومن صاحب الاصطرلاب، ومن صاحب القرسطون.ولم أسألك عن الحداد وإنما سألتك عن الفيلسوف وعن علته في المد والجزر.
وخبرني عن جوهر الأرض وعن جميع الفلز أشيء مفروغ من خلقه أم أرض يستحيل إليه، ولم عمل بعض السم في العصب وبعضه في الدم وبعضه فيهما جميعا، ولم كان بعضه سم نجاز وبعضه سم جهاز، ولم صار لا يقتل مع العادة وقتل قبل العادة، ألأنّ الطبائع تنكر الشيء الغريب أم لأنه ضد في نفسه، وكيف صار مع ريق الأفعى ريق بعض الناس في القتل وفي أيهما سم، ولم خالف البيش في العصب والدم، ولم يقتل العقرب إنسانا ويقتله آخر، ولم صارت الأفعى قاتلة وتأكلها القنافذ ولا تضرها وتأكلها الأروى فلا تتأذى بها، ولم صارت الهندية تقتل كل شيء ولا يقتلها شيء ولا يستمرئها شيء، ولم خالف النيل جميع الأودية في النقصان والزيادة، ولم بلغت جريته الشمال، ولم صار أقصاه كأدناه، ومتى يدال منه ومتى يحوله الامام..!؟
وقد علمت جعلت فداك أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس علة في نشره وكان في الدلالة على الحق كالعيان وفي الشفاه كالسماع، على أن الخبر لا يعرف به تكيف الأمور لكن يعرف به جمل الأشياء إلا خبرك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى اعادة ولا إلى [علة ولا إلى] تفسير حتى يقوم خبرك في الشفاه وفي كيفية الشيء مقام العيان. وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما تقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومته وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل، أو كنت لم أقل كذا كان أمثل، فما بال عفوه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله على كل رفيع، ورحمة أنشأها لكل وضيع.
[16- اسئلة على الفلسفة]
فخبرني ما كان بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون وما دار في ذلك بينك وبين أرسطا طاليس، وأي نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت فقد أبت نفسي غيرك وأبت أن تشتفي إلا بخبرك، ولولا أني كاف برواية الأقاويل ومغرم بمعرفة الاختلاف، وأني أستجير مسألتك عن كل شيء وابتذالك في كل أمر، لما سمعت من أحد سواك، ولما انقطعت إلى أحد غيرك.[17- مساوىء المزاح]
واعلم جعلت فداك أني لم أرد بمزاحك إلا ضحك سنك، ولا كانت غايتي فيك إلا لأنفق عندك، وقد كنت خفت ألا أكون وقفت على حده وأشفقت من المجاوزة لقدره. والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان. وهو باب متى فتحه فاتح وطرّق له مطرّق لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه، ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم من نفسه، لأنه باب أصل بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئا أبعد من شر ولا أطول له صحبة ولا أشد خلافا ولا أكثر خلطا من الجد والمزاح والمناظرة والمراء. قال القعقاع بن شور: ليس لمزّاح مروءة ولا لممار خلة.وقال معاوية: المزاح هو الشنار الأصغر. وقال الحسن بن حي: المزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى. وعاب عمر بعض العظماء فقال: ذلك رجل فيه دعابة. وقال الشاعر: «وجد القول يقدمه المزاح» وقال الآخر «رب كبير ساقة صغير» وقال الآخر «رب جد ساقه اللعب» .
فان كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية، فبما أعرف من يمن مكالمتك وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت قد أخطأت الطريق، وجاوزت حد المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع المتكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه، نعم ولو كان من العلماء الموصوفين والأدباء المذكورين.
ومن المزاح جعلت فداك باب مكر وجنس خدع يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن. وبعد فمتى أعدت النفس عذرا كانت إلى القبيح أسرع ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرا ممن تمازحه يضحك وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته، فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فان قلت: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جوهره وطريقه؟
قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة ووثقت بثواب الإحسان وعلمت أنك لا تقص إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقا والأمل قائدا. وأي عمل أردّ وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبا لكنت شريكي فيه، ولو كان تقصيرا لكنت سببي إليه، لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفظ. ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كنت اجترأت عليك فلم أجتريء عليك إلا بك، وإن كنت أخطأت فلم أخطيء عليك إلا لك، لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفظ وداعية إلى ترك التحرز.
[18- طلب العفو من احمد بن عبد الوهاب على مزاح الجاحظ وسخريته]
وبعد، فمن وهب الكبير فكيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدرك هو الذي شفع لي، ولو استحققت عقابك باقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالانصاف، ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل، ولا الحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر. وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي، فان النعمة تشفع في النعمة، فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأحدوثة فعد إلى حسن العادة وإن لم تفعله لحسن العادة فأت ما أنت أهله. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضى لي عليك ومتى ارتفعنا إلى عقلك حسن العفو عني عندك. وفصل ما بيننا وبينك وفرق ما بين أقدارنا وقدرك انا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتحلم، وإن عليك الانعام وعلينا الشكر، ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف، فإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلا، والتعرض لعقابك بالخوف حقا، ورغبت عن النبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقدا أو يظهر القدرة أو يجب أن يذكر بالصولة. ولم نجدهم أبقاك الله يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله، وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك، ولم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح، ولم تكدّها بالمنافسة ومذهبها المسامحة؟! فسبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك وقولك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثبت من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصرّ، وتتغافل عن المباديء، وتصفح عن المتهاون، حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته إخلاص وهفوته بكر وشفيعه الحرمة، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الأنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، لم يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صرت تتوعد بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة. وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسب ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، ومالي اليوم عمل أنا إليه أسكن ولا شفيع أنا به أوثق من شدة جزعي من عتبك وإفراط هلعي من خوفك، ولست ممن إذا جاد بالصفح ومنّ بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة وإلا النجاة من الهلكة، بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة والعطايا الجزيلة والعز في العشيرة والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب ومحبة الناس.[19- محاسن المزاح]
وأما ذكري القد والخرط والطول والعرض وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع والتشاجر والتحاكم والتنافر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد. ولو استعمل الناس الدّعابة في كل حال والجد في كل مقال وتركوا التسمح والتسهيل وعقدوا في كل دقيق وجليل لكان السفه صراحا خيرا لهم، والباطل محضا أردّ عليهم. ولكن لكل شيء قدر ولكل حال شكل. فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه. والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه، وكذلك المنع والبذل والعقاب والعفو وجميع القبض والبسط. فإن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد. وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع وحاله بحال السخف أشبه، فأما أن يذم حتى يكون كالظلم وينفى حتى يصير كالغدر، فلا لأن المزاح مما يكون مرة قبيحا ومرة حسنا، والظلم لا يكون مرة قبيحا ومرة حسنا.[20- مديح احمد بن عبد الوهاب الساخر]
فاذا ملنا إلى الجد ورغبنا عن الهزل وتركنا المزاح وجلسنا للحكمة فقد أغناك الله عن الحجة كما سلمك من الشبهة، ولم يكلفك الاحتجاج كما رغب بك عن الإعتلال، فأصبحت لا محتجا ولا محجوجا، ولا غفلا ولا موسوما ولا ملوما ولا معذورا، ولا فيك اختلاف ولا بك حاجة إلى إئتلاف، وليس مع العيان وحشة ولا مع الضرورة وجمة ولا دون اليقين وقفة. وهل في تمامك ريب حتى تعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة، وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم أو مجار في الحكم أو ضد في العزم؟ وهل يبلغك الحسد، أو تضرك العين، أو تسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك، وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل لطلاب غرض سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للمادح رجز لا فيك وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ فلولا أن يأخذ الواصف بنصيبه منك وبحصته من الصدق فيك، وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغوا، وكان تشقيق الكلام عجزا، ولكان تكلفه فضلا، ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يمتحن بالتسليم لك، أو يعد إقراره إحسانا وخضوعه إنصافا؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك؟ وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ أم من الشبيه لك في منزلتك؟ ألست خلف الأخيار وبقية الأبرار؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئا أو يفوقه شيء أو يقال لو لم يكن كذا لكان أحسن أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل والتمام الذي لا يحيل إلا فيك أو عندك أو لك أو معك، خالصة لك ومقصورة عليك، لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، فلك منه الكل وللناس البعض، ولك الصافي وللناس المشوب؟! هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، لا بل أين الحسن المصمت، والجمال المفرد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور، والفضل المشهور إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أريب إلا وظلك أكبر من شخصه، وظنك أكثر من علمه، وإسمك أفضل من معناه، وحكمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك، وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك، وهل حملت النساء أجل منك!
[21- جمال احمد بن عبد الوهاب المعكوس]
ولربما رأيت الرجل حسنا جميلا وحلوا مليحا وعتيقا رشيقا وفخما نبيلا ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا مقدور الأجزاء، وقد تكون أيضا الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة، ويكون قصدا ومقدارا عدلا، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها إلا الألمعي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المحقق والتعديل المصحح والتركيب الذي لا يفضحه التفرس ولا يحصره التعنت ولا يتعلل جاذبه ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام ودام لك على الايام. كذا الحسن إذا كان حرا مرسلا وعتيقا مطبقا لا يتحكم عليه الدهر ولا يذيله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والسكن ولا إلى المناقش والكحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلا وحبب إلى القلوب تحبيبا وقرب إلى النفوس تقريبا، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، ولهو أحسن من يوم الحلبة، وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق؛ كأن عنقه إبربق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء وأرق طباعا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل. وأما قول الشاعر:يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدتّه نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء. فان ذلك معنى مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرت النار.
والعجب أيها السامع أني مقصر، وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط، وهو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشؤه محمود، غذي بالنعمة وعاش في الغبطة وأرهفه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته وآخره كأوله. تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف، ولا يمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلتحج باستبانة المشكل، يتخير من الألفاظ أرقها مخرجا ومن المعاني أدقها مسلكا، وأحسنها قبولا، وأجودها وقوعا وأتمها إطماعا، بأقوى الكلام وأوجزه وأعذبه وأحسنه، يقلل عدد حروفه ويكثر عدد معانيه. ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقا إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكنه وعقله وسعة صدره. وبعد [نظره] ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعا. فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وتشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك، فكم من كبد حرّى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم من حشا خافق، وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية، وكم عبرى مولهة، وفتاة معذبة، قد أقرح قلبها الحزن وأجمد عينها الكمد، قد استبدلت بالحلي العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المره، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت نارا تتوقد، وشعلة تتوهج؟
وليس حسنك أبقاك الله الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر، أو يهذبه خوف. هو أعزك الله شيء ينقض العادة، ويفسخ المنّة، ويعجل عن الرويّة، ويطرح بالعرا، وتنسى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب به جعدة السلمي، بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حسنه الإفراط عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم. فلا تعجب إن كنت نهاية الهمة وغاية الأمنية، فإن حسن الوجه إذا وافق حسن القوام، وجودة الرأي، وكثرة العلم، وسعة الخلق، والمغرس الطيب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان البين، والنعمة البهجة والمخرج السهل، والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة، والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة، والهذ عند المناقلة والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والايجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الاطناب، يفل الحز، ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال والحمد. والتاج بهيّ، وهو على رأس الملك أبهى، والياقوت كريم حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن، وهو من فم المنشد أحسن، وإن كان قول المنشد فريضة من نجثه ومختبره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أم إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري: الكأس في يدك احسن ام القلم ام الرمح الذي تحمله، ام المخصرة ام العنان الذي تمسكه، ام السوط الذي تعلقه، وكما اصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأيك أحسن وايها اجمل وأشكل اللمة أم مخطّ اللحية، أم الإكليل أم العصابة أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة! فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، انها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم. أما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأيّ الذي يبدأ به أجمل: الحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف. وعلى أننا ما ندري أي السنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى، أقلمك أم خطك، أم لفظك، أم إشارتك، أم عقدك. وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم والحمد لله، وواحدهم وأعيذك بالله، وأنت تجوز الغاية، وتفوق النهاية.
وقد علمنا أن القمر هو الذي تضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال وهو مع ذلك يبدو ضيئلا نضوا، ويظهر معوجا شختا وأنت أبدا قمر بدر وفخم غمر. ثم مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسا كما يكون سعدا، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويخمّ فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه، وعلى أنه قد محق حسنه المحاق وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال ولا خالص البياض ولا متلأليء، ويعلوه برد ويكسوه ظل الأرض. ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله وليلة فخره واحتفاله، وكثيرا ما يعتريه الصفار من بخار البحار.
وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن. وإن احتجوا عليك بالجزر والمد، احتججت عليهم بالعلم والحلم، وبأن طاعتك اختيار واعتبار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا تمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا حس فيه. ولا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة، ومجالس الخير مأهولة، ونسيم الهواء طببا، وتراب الأرض عبقا. إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تمسكنت فالرهبانية والأخلاص، وإن ترزنت «فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل» .
وطباعك جعلت فداك طباع الخمر إلا أنك حلال كلك، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله عليه، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته ولبابه وشرفه وبهاؤه. وهل يضر القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة عليها.؟
[22- عودة الى قيمة المزاح والجد]
فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذهب الناس في المزاح إلى مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة. فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد. وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان.
وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.
فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فانه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى.
وأن الجد غضب والمزح جمام. والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه. والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. والجد مألم التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا وكدوا ليستريحوا. وإن كان المزاح إنما صار معيبا، والهزل إنما صار مذموما لأن صاحبه لا يكون معرضا لمجاوزة القدر ومخاطرا بمودة الصديق. فالجد داعية الى الإفراط كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر. والتجاوز للحد قاطع بين القرينين في جميع النوعين. فقد ساواه المزاح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح قبيحا لأنه يورث الجد، فأقبح من المزح ما صير المزح قبيحا، لأن الذي يكون بعده الجد، ولم يصير الجد قبيحا لأن الذي بعده المزح، كان الجد في هذا الوزن أقبح من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد، لأن ما جعل الشيء قبيحا أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنا أحسن من الشيء.
وأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيء موضع وليس شيء يصلح في كل موضع. وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ في المباح كما شدد في المفروض، وجعل المباح جماما للقلوب وراحة للأبدان وعونا على معاودة الأعمال. فصار الإطلاق كالحظر والصبر كالشكر. وليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيء إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق الله العباد إلا بالصواب محضا وبالصدق صرفا وبمر الحق صفحا، لهلك العوام وانتقض أمر الخواص. ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولوجد في كل شيء لانتكث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلما كما يكون النسيان للسلامة سببا. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك مجرى جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، والحق أن ينضح عن بعض المزح ويحتج لجمهور الجد، وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون قال الشاعر:
«وذو باطل إن شئت ألهاك باطله»
وقال آخر:
أخو الجدّ إن يجدد فما من وتيرة ... لديه وإن يهزل يعللك باطله
وإن كانوا قد تسموا بعابس وعباس وشتيم وكالح وقاطب وحرب ومرة وصخر وحنظلة وحزن وحجر وقرد وخنزير، فقد تسموا بالضحاك والبطال وبسام وهزال ونشيط. وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال كان فيه مزاح، وكذلك لا يقال مزّاح. وكذلك الأئمة ومن هزل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. فما روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «يا أبا عمير ما فعل النّغير» وقوله: «لا تدخل الجنة عجوز» وقوله: «زوجك الذي في عينيه بياض» وقد كان علي رضي الله عنه يمزح. وقال عمر: إنا إذا خلونا كنا كأحدكم. وقد كان عمر عبوسا قطوبا. وقد كان زياد مع كلوحه وقطوبه يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا. وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه وتمرده وشدة سلطانه يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: والله إن تروني إلا شيطانا، والله لربما رأيتني وإني أقبل رجل إحداهن! فقد ذكرنا خير العالمين وجلة من خيار المسلمين وجبارا عنيدا وكافرا لعينا.
وبعد، فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة وفرع من فروع الطلاقة! وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ولم يأتنا بالانقباض والقسوة وقد أمرنا بافشاء السلام وبالبشر عند التلاقي وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي. قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك تبسما. وقالوا: كان لا يستغرق ضحكا. وقال: «دففوا على صاحبكم» .
وقال: «هذه أيام أكل وشرب وتعلل» وسمع جواري تضرب الكبر عند عائشة فلم ينكره وضحك في قيافة مجزز المدلجي ومن الاعرابي صاحب الدجال.
قد اعتذرنا من معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزح ومرة بالنسيان ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك. على اني لم ارد بمزاحك الا ضحك سنك، انظر هل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك؟ وفي الجملة إنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل فحظك أصبت ولنفسك نظرت، وإن لم تقبل فاجهل جهدك ثم أجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت، وأقول كما قال أخو بني منقر:
فما بقيا عليّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النّبال
والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بأحمد بن خلف وباسماعيل بن علي، ولئن صلت عليّ بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط لأتيهن عليك بحسة وهب الدلال! وأنا أرى لك أن تقبل العافية وترغب الى الله تعالى في طول السلامة، واحذر البغي فان مصرعه وخيم، واتق الظلم فان مرعاه وبيل، وإياك أن نتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر. ولطاهر إذا صال، ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل قدر نفسه لم يعرف قدر غيره.
وقد رعيت لك حق نبيذك وحسن شرابك وإن كان فوق العيوق ودونه بيض الأنوق، وحق توتيائك وإن بعثت به ممزوجا فكيف لو بعثت به خالصا.
وعليك بالجد فانه خير لك، ودع البيات فانه أمثل بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الإخبار أني أشد منك عقلا، وأظهر منك حزما وألطف كيدا، وأكثر علما، وأوزن حلما وأخف روحا، وأكرم عينا، وأقل غشا، وأجل قدا وأبعد غورا، وأجمل وجها، وأنصع ظرفا، وأكثر ملحا، وأنطق لسانا، وأحسن بيانا وأجهر جهارة، وأحسن إشارة. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتغر من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء. ليس عندك إلا ذلك. فلم تزاحم البحار بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ..!؟
[23- شروط التمثيل وانواع الخطأ]
فأما الباد والقامة فمن يعدل بين القناة والكرة، ومن يمثل بين النخلة والدكان وبين رحى الطحان وسيف يمان! وإنما يكون التمثيل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين، وبين المتقاربين دون المتقاوتين، فأما الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا ما لا يخطيء فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس، والخطأ ثلاث: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي، كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير والتقويم والتأنيب، والعمد نوع واحد وسبيله القمع والحظر والضرب والقتل، وأول ذلك أن يهجره صاحب الحكمة ولا يطمعه في وعظ ولا مجالسة. وقد رأيت من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به استنباطا، ولم أر من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به عيانا. وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو اليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة فيه حتى تكون لك فيه الرئاسة، ولا ترضى بالرئاسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري والمواليد التي تنمى، ولا ترضى أن تكون أولا حتى تكون آخرا، ولا بالمداراة دون المباداة، ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام، وأن التقصير كفر.
[24- الامام عند الشيعة]
وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة، ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة. لأنك رجل لا عقب لك، والإمامة اليوم لا تصلح في الاخوة ولو صلحت في الأخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم إنها دنت من الأرحام بعد ذلك فصارت لا تصلح إلا في الولد، وفي هذا القياس إنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه آخر الأبد. وهذا هو علة أصحاب التناسخ وأنت رافضي، ولم يكن هذا عندك. فاهد اليّ الآن من خالص التوتياء كما أهديت اليك باب التناسخ. وأنت ترى القتل في حق المعاندة شهادة، وترى أن مباينة المنصفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرئاسة في دفع الحقائق مرتبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضعة، وأن الشهرة بالمبالغة رفعة. أظهر القوم عندك حجة أرفعهم صوتا، وأخلقهم للمثوبة أصلبهم وجها، وأحسنهم تقية أقلهم حرجا، وأكثرهم عندك إنصافا أشدهم شغبا. تعشق المتهور وتكلف بالجموح وتصافي الوقاح. والأديب عندك من عاب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغمز في قفا النديم، ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كلّ نعمة، وأنكر كل حقيقة.
[25- علة الاستطراد]
جعلت فداك، إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، لأنك متى كنت للشيء منتظرا وله متوقعا كان أحظى لما يرد عليك واشهى لما يهدى إليك، وكل منتظر معظم، وكل مأمول مكرم.
كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا بالاقتباس، وشحا على نصيبي منك، وضنا بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر.
[26- اسئلة على الأنبياء والمتنبئين]
خبرني: كيف كانت خدائع المتنبئين، ومخاريق الكذابين ممن قد كان ترشح للتنبوء، ومن لم يظهر دعوته، ومن دعا واجتهد، ومن أجيب، ومن لم يجب. وصف لي أبواب مصايدهم وأجناس كيدهم وحيلهم، وعن اعتمادهم على المواطأة، وعن تقدمهم في الحجة، وعمن ذهب في طريق التفهم، وعن أصحاب الزّجر والتنجيم، وعن أصحاب الاسترحام، وعن إظهار الزهد وتحريم الاستمتاع، ومن وافق صورته وحاله بعض ما في البشارات المتقدمة وما في الكتب الصحيحة، ومن اتفق له غير ذلك من الشبهة. فقل في شيث بن آدم، وقل في زرادشت، وفي ماني، وفي فولس، وفيما ادّعي لمرقس ومتّى ولوقا ويوحنا. وخبرني عن الأسود العنسي، ومسيلمة الحنفي، وطليحة الأسدي، وبنت عقفان، وربعي، وأمية بن أبي الصلت، وما قصة الطائرين الاخضرين، وما كان شأن الرماح. وخبرني عن سلمى بن جندل، وما قال الهند في نزول البدّ، وقصة ابن ديصان، وما قول عبدة الكيان وعباد قوة الهيولى وأصحاب البيضة، ومن عبد النجوم وثبت لها الحس والعلم والنفع والضر، ومن جعل كل داع إلى الله بالصواب والعدل وصلة الرحم ونفي الجهل نبيا، ومن أنكر أصل النبوة البتة، وما تقول في حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان؟ وقل في الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وهل يجوز أن يكفر نبي أو يشرك أو يضل بعد هدايته، ويصير عدوا بعد ولايته، ويدل الله على كذبه كما دل على صدقه؟ وكيف صار النبي عندكم يعصي ويخطيء والإمام لا يعصي ولا يخطيء؟ وكيف ساغ ذلك في جميع النبيين وأمكن في جميع المرسلين، على كثرة عدد النبيين والمرسلين، ولم يجز ذلك في إمام واحد مع قلة عدد الأئمة مذ كانوا؟
[27- اسئلة على الاديان]
وخبرني لم تنصر النعمان ويزيد بن الحارث، وتهود ذو نواس، وتمجست ملوك سبأ؟ وكيف صارت العرب فرقا بين محلّ ومحرم وأحمسي، سوى تفرقهم في الملل، وكيف لم نر أمة قط دهرية وقد علمنا أنه لا يجوز أن يتنبأ دهري؟ وكيف لم يتدهر ملك، وكيف لم نجد قول الدهرية إلا في الخاص والشاذ والرجل النادر؟ ولم كان لجميع أهل الاديان مملكة وملوك إلا الزنادقة ولم قتلهم جميع الأمم السالفة؟ ولم قضيت بهذا وقد رأينا المصدقية والدّيناوريّة والتّغزغزية! فإن قلت: لأن من لم يكن من دينه القتال ولا من غريزته البأس فهو مسلوب أو مسترق، فما بال الروم تمنع أن تسترق وأن تسلب وليس في دينهم قتال ولا جدال ولا مكافأة ولا دفع.
[28- اسئلة على العرافة والسحر]
جعلت فداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان يقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهجيمي، وأين كان أبو منصور المخاريقي من جرمي، وأين بامونة من حسده، وأين قشة اليهودي من كشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزّي سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حليس الخطاط. وحدثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة [أقتلتا] باقرار منهما بكيفية السحر؟. وحدثني عن صاحب جندب بن زهير باقرار قتله أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟. وهل ثبت جعلت فداك أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في جف طلعة ووضع تحت راعوفة البئر أم لا؟
وخبرني: ما البحر باي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المفسرون فيها وزعموا أنها كانت رأس هر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخبرني: ما تأويل الزّمزمة، وما فعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم.
وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟
[29- اسئلة على التذكر والنسيان]
وخبرني جعلت فداك عن قولك في الشعر الذي ننشده في المنام مما لم نسمع بأجود منه في اليقظة، وعن الشعر الذي نخترعه عن مناقلة الكلام وموازنة الأمور وحال النوم، وحال الآفة والنقص وصاحبه مغمور أم شبيه بالمغمور ولا يجري عليه قلم ولا يلام ولا يشكر، ولم صرنا نتذكر الشيء المهم فلا نقدر عليه حتى ندعه فأيسنا منه أجمع ما نكون أنفسا وأحسن ما نكون تذكرا، ثم يعارضنا ويخطر على بالنا في حال سهر أو في حال نوم وأغنى ما نكون عنه وأقل ما نكون احتفالا به، ولم صرنا ننسى من القصيدة بيتا أو آية من جميع السورة أو كلمة من جميع كلام الخطبة، ولم صار البلغم بالباء أولى منه بالتاء، ولم كانت المرّة السوداء بالجيم أولى منها بالحاء، وكذلك القلب المانع من الحفظ. وهل بد للحقيقة من خصائص أسباب وأعيان علل؟ وإلا فقد يجوز أن تنسى هذه القصيدة بدل تلك، ولم صار بعض الناس أحفظ للنسب وبعضهم أحفظ للاسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للالفاظ. ولم صرنا لا ننسى السباحة وبالاكتساب عرفناها والعادة أن المكتسب قد ينسى ويجهل، وأن الضروريات لا تجهل. وقل لي لم لم تضرب السامري، ولم لم تعض ماني وتمضه، ولم لم تبزق في وجه فرعون. أم إن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قواله الكناني حين قال على رأس النعمان وأنت رجل يمان هي التي منعتك من أن تبزق في وجه فرعون وأنت سمعته يقول: «وما رب العالمين» ؟ ولم أزعم أنك رجل يمان لولادة لك في قحطان، كيف وأنت أقدم من قحطان ومعد بن عدنان، ومن القرون التي خبر الله عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها! ولكنك منهم بالهوى والنصرة، ولأنهم كانوا لك أحشاما وصنيعة.
وقل لم صار جميع الحيوان يسبح إلا الانسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر؟ وأي شيء عندك في آصف، وفي سفر آدم، وفي جراب موسى، وفي درسب، وفي شنلة، وفي كتاب الأسماء، وفي قولهم دعا فلان باسم الله الاعظم، وما تقول في ابن عقيب، وفي أشج بن عمرو، وفي شعيب وصالح، وفي السفياني، وفي الأصفر القحطاني.
[30- اسئلة على الرياضيات]
وخبرني جعلت فداك مذ كم صنعت حساب الهسمرح، ومن صاحب خطوط الهند، وأين كتب قوم صنعة السند هند والأركند وحساب كلا سفر؟
ومذ كم عمل الباب الجامع، ومذ كم عمل الارتماطيقي، ومن سمى الجبر بالجبر، والجذر بالجذر، والنشاذر بالبارود، والأكدرية من أي شيء اشتقت، وما تأويل الدحال، وما تأويل الجمل، ومن أول من عد إلى عشرة وجعل العشرة منتهى وغاية، ثم ضاعفها وجعل غايات الأعداد عشر العشرات وعشرات عشرات العشرات أبدا، ثم كسر على العشرة مما دون أعدادها، لأن الأصابع عشرة، وكيف لم يجعل الغاية ما له نصف وثلث وربع وسدس وثمن، أم رأى أن التضعيف أبدا لا يكون إلا للعشرات، فقد نجده في عشر العشرات، أم القول الأول الأشياء كلها عشرات، ولست أعرف جعلت فداك قوله إن الانسان عشرة أشياء، كما لم أعرف قول الفزاري أن العقل كريّ، وقد علمت أن القلب كري، وأن الرأس الذي جمع الحواس كري. فأما العلم والقول وما أشبههما فإنا لا نعرف هذه الأمور إلا على خلاف الأجرام الموصولة والمقطوعة، وقد شدوت من الموسيقى ولم أبلغ منه شهوتي.
[31- اسئلة على الموسيقى وبعض الكتب المعربة]
فخبرني أين كان أقليدس وميرسطوس من فيثاغورس، وأين تلامذتهما من تلامذته، وهلا قدمتم أقليدس مع صنعة البرابط والمعارف؟ وأين أرشخانس من مورسطس، وأين ريوشت من فلهوذ، ولم قتله وهو فوقه في الإطراب والصنعة وفي الرواية والرئاسة، ولم عفا سابور عن قتله بعد إقراره بقتله وبعد أن سحب الى الفيلة وعزم على إمضاء الحكم. وأين كانت هر وفرتنا من الجرادتين، وأبو طيبة والرباب من السردان والمهراس، وأين حبابة من سلّامة صاحبتي يزيد، وأين عزة الميلاء من جميلة الحدباء، وأين حيية من الميلاء.
وخبرني عن غناء الركبانية للمصطلق أخذته منه الركبان أم للركبان وهل رجعه بخسر المصطلق، وزعمت أن الاهراج لليمن، وأن النصب للقينات، فلمن السناد؟ فخبرني أين كان ضبيس بن حرام من المصطلق بن سعيدة، ولم جعل المعلم النغم يعد لليوناني ست عشرة نغمة؟ ألأنه لم يدرك أكثر منها أم لأنه ليس في الحلقة إلا ما أدرك، ولم جعل الرعب للسوداء، والحزن للبلغم، والجرأة للصفراء، والسرور للدم. ولم فسر الأوتار على ذلك فجعل الزير للصفراء، والمثنى للدم، والمثلث للبلغم، والبم للسوداء! وقال: ألزير لطيف ناري خفيف، والمثنى هوائيّ بين طبيعة النار وهو دون النار في الخفة وبين طبيعة الماء وهو فوق الماء في الخفة، والمثلث كالماء، والبم كالأرض، وفي المثنى ضعف وزن الزير، وفي المثلث ضعفا وزن الزير، وفي البم ثلاثة أضعاف. ولم زعم أن من اللحون ما يقلق ويفرق فإن زيد فيه نقض وإن قوي قتل. وأن فيها ما يغير فان زيد فيه غشىّ وإن قوي أجمد فإن قوي قتل. فجعل لحنا مطلقا يقتل بالإذابة، وجعل لحنا يقتل بالاجماد. ولم وصف اللحون بالإجماد والاضاعة كما توصف السموم القاتلة؟. خبرني عن صنعة البربط، للمك أم لرفائيل أم لأقليدس؟ وما تقول في قولهم إن لمكا عمل العود على صورة فخذ ابنه ساقها وقدمها وأصابعها وأنه جعل الصدر الفخذ، والساق الإبريق، والقدم المشط، والأصابع الملاوي، والأوتار العصب والعروق.
جعلت فداك كيف حفظك لكتاب كاوريد، وقد خبرني بعض المتكلمين أنه رأى بسيراف مجوسيا يحفظه وهو في ألف جلد بخط مقارب. وكيف حفظك لكتاب الطرف وهل لقيت واضعه أيام أدخلك بلاد الروم نزول عطارد؟
وخبرني عن أسرار الهند ألرجل بعينه أم لشورى؟ ولم زعموا أن العقوق يورث البرص، وهذا مما لا يعرف في الطب. ومن صاحب الشطرنج، ومن صاحب كليلة ودمنة، ومن واضع الكوكلة، ومن طبع القلعة، ولم صار الهندي والرومي لا يحفلان بالسندي في حال الأسر ويرغبان عنه في حال القتال. وقد اختلفوا علينا في النعال السندية فزعم قوم أن صاحب كتاب الباه كان قصيرا منكرا وكان بالنساء مستهترا وأنه احتال بها لجسمه حتى وصلها برجله ليكون ثخنها زائدا في طوله فلما طالت الأيام ومضت الدهور ظن من لا علم له أنها اتخذت للزينة أو لضرب من المرفق. وقال آخرون: بل اتخذت للعقارب ليلا وللطين نهارا، فلما طال عليها نسي السبب، وذلك أن أكثر الرداغ لا تستغرق ثخنها وابرة العقرب لا تكاد تجاوزها وقال آخرون: بل إنما اتخذتها ملوكها لمكان أصواتها وصريرها استئذانا على أزواجها وأمهات أولادها وعلى جميع محارمها لحالات تكنّ عليها وأمور تكن فيها، فصار صريرها تدنأ واستئذانا.
وزعم إسماعيل بن علي أنك أنت الذي كنت أمرت باتخاذها وأشرت بصنعها، وأنك تكتم السر الذي فيه، وأنك الذي علمتهم مضغ التانبول ودبغ تحمير الاسنان، وتطيب النكهة، وأكل السعد لما أنت أعلم به، والتصندل لما لا يجوز المكاتبة فيه، وأنك أول من احتبى هناك واستاك وفرق شعره وعلم الخضاب أهله. وكيف وقد زعمت أن الاحتباء إنما صار فيهم وفي العرب لأن نازلة العمد والصحاري وسكان الفيافي والبراري وكل من ليس لشماله مرفقة ولا لظهره مسندة ولا لفخذه جنة لا بد أن يشتكي ظهره إذا طال انتصابه وكثر جلوسه، ومن احتاج احتال، ومن استغنى تبلد. فأخرجت لهم الحبكة للحبوة حتى قامت لهم مكان المتكأ والمسند. فقد قال لك كسرى: فما بال الترك والخزر وجميع أهل الصحاري والعمد لا يعرفون الاحتباء، والحاجة واحدة والعقول سليمة، فلم أمسكت يومئذ عن الجواب؟ ألأنه استفهم استفهام الراد أو نفست به على من شهد ذلك المشهد؟
[32- اسئلة على المعرفة وطرقها]
وأنا جعلت فداك أعلم إنّي أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه، كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه، أم معدن العقل القلب دون الدماغ أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والإضطراب وغير ذلك. فكيف القول فيه وعلام عزمت منه. وكيف صار الناظر يبتدي من جهة وإن كان يعرف الله فكيف عرفه، أباضطرار أم باكتساب. وكيف جهل سليمان موضع ملكة سبأ، وهو ملك وشأنه عظيم والجن له مسخرة والطير له برد والريح له أداة، وكيف جهل يوسف مكان أبيه وحاله في الحزن عليه حاله وهو ملك نبي، وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبي، وليس أنبه من نبي، وملك هذا بالشام والآخر بمصر. وما تقول في أهل التيه وعن ترددهم أربعين عاما في مكان واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق، فكيف أضل الجميع الطريق مع ارتفاع الذكر وشدة الطلب. وخبرني عن كلام عيسى في بطن أمه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصبا، أكانا في حالهما يتعقلان ما لا يعلمان أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف علما، أبتجربة واستنباط وعن تمام أداة وكمال آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة.
وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مسألتي، وتعجبي من تعجبهم أشد والذي كان من إنكارهم أعظم ولو رغبوا في العلم رغبتي ورأوا فيه مثل رأيي وكانوا قرأوا كتابي إليك في شيبتي وأيام شباب رغبتي لاستقلوا من ذلك ما استكثروا ولا ستقصروا منه ما استطالوا. فإن أذنت لي أظهرته، وإن تجد علي أعلنته.
وسنقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك جعلت فداك مسؤول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب. ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لافلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أحببت معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الاسواري، فتربية كفك والناشي تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه أعنى.
[33- اسئلة على المرائي والابصار]
وخبرني عن المرائي كيف صارت ترى الوجوه ويبصر فيها الخلق وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن، كالسيف، والوذيلة، والقوارير، والماء الراكد، حتى الحبر البراق، والحدقة السوداء إذا كان الناظر في الحدقة أبيض والحدقة المغربة إذا كان الناظر فيها أسود. وكيف صار الماء الجاري والنار الملتهبة والشمس ذات الشعاع لا تقبل الصورة ولا يثبت فيها الخلق. وعن قول من زعم أنه ليس في القمر محق ثابت، ولا كمد جامد، ولا سواد واكد، وإنما ذلك شيء رآه الناس فيه إذ كان أملس صقيلا بمقابلة الأرض وما فيها كما يرى من قابل الحدقة صورة إنسان، وليس هناك صورة، وإنما هو شيء يوجد عند المقابلة. ولم صار بعض المرائي يرى الوجه والقفا ويرى الرأس منكسا، ولم كنت لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدا إلا مقلوبا، وما تلك الصورة الثابتة في المرآة أعرض أم جوهر أم أي شيء، وحقيقة أم تخييل، والذي نرى أهو وجهك أو غير وجهك فان كان عرضا فما الذي ولده وما الذي أوجبه والوجه لم يماسه ولم يعمل فيه. وهل أبطلت تلك الصورة المرئية صورة مكانها في المرآة، ولم وأنت لست تراها في نفس صفيحة المرآة، ولم وكأنك تراها في هواء خلف جوفها، وهل أبطل ذلك اللون الذي هو في مثال لونك لون المرآة؟ فإن لم يكن أبطله فهناك إذا صورتان في جسم في حال واحد، أو لونان في جوهر واحد. وإن كان قد أبطل لون الحديد فكيف أبطله من غير أن يكون عمل فيه، وكيف يعمل فيه وحيزه غير حيزه وهو لا مماسّ ولا متصل ولا مصادم. وسواء ذكرنا صفيحة الحديد أم ما خلفها من الهواء وما قدامها من الفرجة، كل ذلك جسم ذو لون. فان اعتللت بالشعاع الفاصل والشعاع يخالف في الحس، كذلك الحساس وكذلك المحسوس، وكيف نرى المخالف وكيف والشعاع لون وبياض والنفس الحساسة لا تدرك بشيء من الحواس وما الفرق بين الأثعبان والاحللان وعن قول ما بين السمون والحفرة.
وخبرني عن القرسطون كيف أخرج أحد رأسيه ثلاثمائة رطل زاد ذلك أم نقص ووزن جميعه ثلاثون رطلا زاد ذلك أم نقص. وما تقول في السراب، وما تقول في الصدى، وما تقول في القوس، وما تقول في طريقة الحمرة، وفي طريقة الخضرة، وكيف اختلفتا والهواء واحد وما يقابلهما واحد، وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل.
[34- اسئلة على الالوان]
وخبرني عن لون ذنب الطاووس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يتلون بقدر المقابلة أم تقول إن هناك لونا بعينه والباقي تخييل! وما تقول في عس الماء كيف اشتد صوته بلا باب والصوت لا بد له من هواء، وإذا اشتد فلا بد له من باب، وما نقول في خضر السماء، أهو خضر جلدها كما تقول، أم ذلك لحر الهواء كما يقول خصمنا؟ وهل تزعم أن الأفلاك ذات لون؟ فان كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلاف ما يقولون. وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذا غير الفلك فهذا هذا. ونقول أيضا إن كنا لا نرى القرى المستطيلة البنيان المختلفة من البعد إلا مستديرة فلعل الشمس مصلبة والكواكب مربعة. وما تقول في المد والجزر، أمن ملك يضع رجلا ويرفع رجلا، فان كان كذلك فلعل مدبر الفلك ملك ولعل صوت الرعد صوت زجر ملك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المد والجزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض، فانما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه يعرف ذلك أهل الجزر والمد.
[35- اسئلة على القيافة والظلام]
وخبرني كيف صارت القيافة في النسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلفا وصنعة، ولا عرفت بالاستنباط والفكرة، فتكون لمن تعلم دون من يتعلم، نجدها في بني مدلج، ثم في خاص من خثعم، وكذلك خزاعة، وهي في قريش أقل. وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأب ولا يجمعهم بلد، وليس فيما بين البلدين قافة وهي فيهم على هذه الصفة. وكيف لم يختلفوا في لغتهم فينطق بعضهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية. فان قلت فارقهم المعجم والشاعر والبكي والغرير، فان الشاعر وإن كان القريض عليه اسهل وهو على القوافي أقدر فإنه يتروى الشعر ويصنعه ويتفرد له ويفكر فيه، وكيف صار الانسان يعيش حيث تعيش النار ويموت حيث تموت النار، يصاب علم ذلك في الحباب وفي الغيران، ولم صار يبصر النجوم من قعر البئر العميقة ولا يبصرها أبدا إلا وهو خالص الظلمة. وخبرني عن الظلام أجسم موجود عند زوال الضوء، أم تأويل قولنا ظلام إنما نريد به دفع الضوء! فإن كان الظلام معنى أفتراه انقمع في الأرض وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قرص للضلام كما أن عين الشمس قرص للضياء، وإن كان قائما فكيف لم يتنافيا. وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على منظر الأعين، ولو كان الأمر كذلك فنحن إذا لم نر ضياء قط ولا ظلاما.
[36- اسئلة على نقص الاعضاء الداخلية]
وخبرني جعلت فداك لم زعمت أن الحس للعصب، وأن الشر عصب جامد وأن الرئة لا حس لها، وأن من أدام سف اللبان لم يؤلمه المؤلم وألذه الملذ، وكيف يلذ من لا يألم، ولو جاز ذلك لعرف الصواب من يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب. هذا ما عندي من العلم البراني وأنت أبصر بالعلم الجواني.
وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال له، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها، ولم كانت حيتان البحر لا ألسنة لها، ولم حاضت الأرنب ولم اجترت، ولم كان قضيبه من عظام ولم كانت علائق أجواف السبع أفرادا إلا الكلية. وزعمت أنك تعرف في الخفاش سبعين أعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعا، وأنك تعرف في الذهب مائة خصلة كريمة، والناس لا يعرفون إلا عشرا، وأنك تعرف في البعير ألف داء ودواء والأعراب لا تدعي إلا مائة داء غير دواء.
[37- اسئلة على السحر والشيطان]
جعلت فداك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كاد البيان أن يكون سحرا» وقال: «إن من البيان لسحرا» وقال عمر بن عبد العزيز وسمع رجلا يتكلم بكلام بليغ عجيب لطيف رقيق: هذا والله السحر الحلال. وقال الناس لذي المكر والخلابة ولذي الرفق والتأتي: ما هو إلا ساحر، وقد سحر بكلامه. وقالوا للمرأة: ساحرة العينين. وقد ذكر الله السحرة في القرآن وأخبر عن هاروت وماروت وخبر عن النفاثات في العقد. وقال الناس: لهو أقبح من السحر. إذا أرادوا نفس المعنى المشبه به والمعنى المحصول عليه والسحر نفسه. وما الذي اشتقت منه هذه الأمثال؟ ولم تجدهم أبقاك الله سموا كهان العرب سحرة، ولا العرّاف ساحرا، ولا الحازي، ولا صاحب الطّرق، ولا من كان معه رئيّ، ولا من ادعى تابعة من لدن عمرو بن لحيّ إلى يومنا هذا.
وما قاله [الساحر] اذا عقد عقدا أو دفن صورة بالأندلس لرجل بفرغانة وإذا صور شمعتين وخرطهما على مثال إنسانين ودفنهما وخبأ مكانهما وقابل بين وجوههما تقابلا بالمودة، وإن دابر بينهما تدابرا بالعداوة. وقل لي من يتولى هذا له ومن يقوم له به ومن يتطوع به عليه، فإن قلت الشيطان، فلم فعل هذا له وأول شيطنته أن لا يطيع من هو فوقه، فإن قلت: بالعزائم التي لا ترد والأيمان التي لا تدفع، فقد عزم الله عليه بالقرآن والتوراة والانجيل فلم يجده يحفل بذلك ولا يرى له قدرا ولا يكترث له ولا يراه سببا. وأخبرني ما هذه العزيمة التي إذا سمع بها أجاب، وإذا ظهرت له أناب، ومن أين عرف الإنسان هذه العزيمة، ومن أين وقع عليها، ومن له بها، أهو صنعها أم صنعت له فإن يكن الشيطان هو الذي ابتدأه بها فقد ابتدأه إذا بتعريف العزيمة قبل أن يعزم عليه، وقد تطوع بأعظم الأمور، فما الذي يحوجه الى العزيمة في أصغرها، فقل في هذا. وإن زعمت أن العازم صاحبه دون الشيطان، والعازم مسلم وإن كان مسلما ولذلك أجاب العزيمة وعظم الإخلاف، فلم يخبل له الأصحاء ويقتل المرضى ولم يحبّب ويبغض، ولم يفرق بين المرء وأهله، وبين الولد البارّ وأمه، ولم يجتلب العفائف إلى الزناة، ولم يعذب ويقتل؟ وهذا متناقض.
[38- اسئلة على بعض عجائب الحيوانات]
ولم قيل أعق من ضب وأبر من هرة، وهما جميعا يأكلان أولادهما، ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت حتى قال الشاعر: «حتى عال أوس عيالها» وهل يفهم الضبع قولهم: خامري أم عامر؟ وما بال الظبي لا يدخل كناسه إلا مستدبرا وهل يجوز قولهم في نوم الذئب قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... المنايا بأخرى فهو يقظان هاجع
ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين، ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دما، وما بال الجن والثيران، وما بال الشياطين والورشان، وهل في الحيات جنان. وما معنى قولهم: كأنما كسر فجبر. وما تأويل الحديث: يؤخذ للجماء من القرناء. ويكلف أن يعقد بين شعيرتين.
[39- الجواب على هذه الأسئلة موجود في كتب الجاحظ]
ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك أن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان. وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيرا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فالزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي وابتدىء بنفي التشبيه والقول بالبداء واستبدل بالرفض الأعتزال، وأن أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ فلا يبعد الله إلا من ظلم.
[40- مجموعة من حكم الفلاسفة]
وقد بقيت لي عليك مسائل وهي خاتمة الكتاب ومنتهى المسائل: أيهما أحسن قول بقراط مفسرا: العمر قصير والصناعة طويلة والزمان جديد والتجربة خطأ والقضاء عسر، أم قول أفلاطون مجملا: لولا أن في قولي أني لا أعلم تثبيتا لأني أعلم لقلت إني لا أعلم، أم تواضع أرشخانس حيث يقول: ليس معي من فضيلة العلوم إلا علمي بأني لست بعالم. فانظر في آخر هؤلاء ثم انظر في قول ديمقراط: عالم معاند خير من عالم منصف جاهل، وفي قول تلميذه الأول: الجاهل لا يكون منصفا والعالم لا يكون معاندا وقد يكون العالم معاندا. ثم انظر في قول ريسموس: لولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلا به أحب الي من أن أدعه زهدا فيه، وإن كان الجهل لا يكون إلا من نقصان في آلة الحس فإن المعاندة [هي] زيادة في آلة الشر، ولأن أترك جميع الخير أحب إلي من أن أفعل بعض الشر، ثم انظر في قول تومقراط؛ العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد العمل مولود، وكان العمل لمكان العلم ولم يكن العلم لمكان العمل. فالسبب الجالب خير من السبب المجلوب، والغالب خير من المغلوب. وانظر في قول اقليمون: ألعلم كان من العمل والعمل غاية، والعلم رائد والعمل مرشد. ثم انظر في قول ارسطاطاليس: ليس طلبي العلم طمعا في بلوغ قاصيته ولا سبيلا إلى غايته ولكن التمس ما لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. ثم انظر في قوله: قد عرفت الارتماطيقى، وأيقنت معرفة الموسيقى، وعرفت المساحة، فلم يبق إلا علم الآلهي ومعرفة الاصلاح. ثم انظر في قول مورسطوس: عرفت أكثر المقصود وأقل ما يوقف عليه من المبسوط، وقليل الكثير كثير، وكثير القليل كثير.
ثم انظر في قول اقليمون: ما أقل منفعة كثير المعرفة مع شرف الطبيعة واقتصاد الشهوة. ثم انظر في قول تلميذه الأول: غلبة الطبيعة تبطل المعرفة وتنسى العاقبة ولو كانت المعرفة ثابتة لكانت هي الغالبة. ثم انظر في قول تلميذه الثاني: ليس بعلم ما كان مغلوبا وليس بفهم ما كان مغمورا بل لا يكون مغلوبا إلا بالنقص والخبال ولا مغمورا إلا بالغلبة والانتقاض. ثم انظر في قول ما سرجس: من قصر عن طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهرة. كان حظه من الرغبة وحظه من الرهبة على مقدار حق الرهبة. ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الإستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وقدره، وانتفاعه به على حسب استحقاقه في نفسه.
وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضه عليك واستتاره عنك، وعلمت أني لا أقدر أن أصوره لك دون دهر طويل، ولا أضمنك معناه دون تربيب كثير.
[41- فوائد هذا الكتاب]
هذا الكتاب مرض مع ما فيه من الأخلاط من أشكال وأضداد، ومن الجد والهزل، ومن الحظر والإطلاق، ومن الاستئناف والقطع، ومن التحفظ والتضييع، ومن التثبيت والتهاون، إذا أريد به تقريع معجب أو تكشيف مموه، أو امتحان مشكل، أو تخجيل وقاح، أو قمع ممار، أو ممازحة ظريف، أو مساءلة عالم، أو مدارسة حافظ، أو تنبيها على الطريق، أو تجديدا للذهن.
[42- حاجة العقل الى الشحذ]
والعقل حفظك الله أطول رقدة من العين، وأحوج الى الشحذ من السيف، وأفقر الى التعهد، وأسرع الى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل، وعلاجه أعضل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثم معرفة وجوه المطالب، ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز. والمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب، فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالا ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه- هذا جماع هذا الباب وجمهوره وأقسامه وجملته. ثم من أنفع أسبابه الحفظ لما قد حصل والتقييد لما ورد والانتظار لما يرد أن لا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فضل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بمكنونه ولا يسمح بسره ومخزونه إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب وصانه عن التبذل، وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. وكان يقال: من شاب شيب له وخصلة ينبغي ان تعرفها وتصطنعها وتذكرها وتقف عندها وهي ان تبدأ من العلوم بالمهم، وان تختار من صنوفه ما انت له انشط والطبيعة به اعنى، فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاطه وتمييز أجناسه والمعرفة باقداره حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخيطر النفيس، ولا تلقى إلا الغث الخسيس والحقير السخيف، فانك متى كنت كذلك لم تميز فضل ما بين النظرين ولا فرق ما بين النعتين. والكيس كل الكيس والحذق كل الحذق أن لا تعجل ولا تبطيء وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن تعلم أن الأناة خلاف الإبطاء، وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه.
[43- الخاتمة!
هذا جملة العذر في هذه الرسالة، وجملة الحجة فيما قدمنا من الافتنان والإطالة. فان كنا أصبنا فالصواب أردنا وإلى غايته أجرينا، وإن كنا قد أخطأنا فما ذلك عن فساد من الضمير ولا عن قلة احتفال بالتقصير. ولعل طبيعة خانت، أو لعل علة حدثت، أو لعل سهوا اعترض، أو لعل شغلا منع.
خفض عليك أيها السامع فان الخطأ كثير غامر ومستول غالب، والصواب قليل خاص ومقموع مستخف. فوجه اللائمة الى أهلها وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور. كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة فلما خرجت الأفعال باسرها من العادة صارت بأسرها عجبا، فبدخول كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب. وقد ذكر الله تعالى التعجب في كتابه، وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وفي الناس يومئذ الناقص والوافر والمشوب والخالص والمستقيم والمعوج. قال الله تبارك وتعالى لنبيه وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ
وقال بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
واعلم أنه لم يبق من المتعجب القائل إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع القائل إلا حصة السمع. وأما القلوب فخاوية قاسية وراكدة جامدة، لا تسمع داعيا ولا تجيب سائلا قد أغفلها سوء العادة واستولى عليها سلطان السكرة. فدع عنك ما لست منه فان فيما أورده عليك شغلا وهما داخلا.
إعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقي بعض أمورها وحبس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري، لكنه جل ذكره مسخ الدنيا مسخا متتبعا ومستقصى مستفرغا، فبين حاليهما جميع التضاد، وبين معنييهما غاية الخلاف. فالصواب اليوم غريب وصاحبه مجهول. فالعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرت عونا عليه مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد رفدته، ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة ولا التأنيس ولا التعزية، وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه وأجتث أصله. وقد كان يقال: من طلب عيبا وجده. هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فان أنصفت فقد أغربت، وإن جرت فلم تعد ما عليه الزمان. وهب الله لنا ولك الإنصاف وأعاذنا وإياك من الظلم.
والحمد لله كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل. 21- هامش كتاب التربيع والتدوير
(1) لم يبدأ الكتاب بالمقدمة التقليدية التي عهدناها في كتب الجاحظ. هذا يدل على انها حذفت، وان قسما من الكتاب بتر. ومطلع الكتاب المتعلق بالتعريف باحمد بن عبد الوهاب المثبت هنا (حوالي اربع صفحات ساقط من طبعة عبد السلام هارون وموجود في طبعة السندوبي) .
(2) نجد مقدمة مبتسرة هنا: «بسم الله الرحمن الرحيم: اطال الله بقاءك واتم نعمته عليك وكرامته لك» . هذه المقدمة ارجح انها مقحمة من قبل الناسخ وليست للجاحظ.
(3) قوله ان احمد بن عبد الوهاب لا يتورع عن مطاولة ابي جعفر اي محمد بن عبد الملك الزيات ومخاشنته ومنافرته في المجالس الحافلة بكبار الحكام، ولا تحدي الجاحظ والتطاول عليه، يبين لنا الدافع الذي حفزه على كتابة هذه الرسالة. لقد ضاق ذرعا من تطاول هذا الكاتب المعتد بنفسه فشن عليه هذه الحملة من السخرية والاستهزاء والتقبيح والتشنيع.
(4) لاحظ كيف يهزأ من كبرسن احمد بن عبد الوهاب فيتهمه بالخرف ويقارن عمره المديد باعمار الهيولى (المادة الأولى للعالم عند ارسطو والمشائين وهي قديمة وليست حادثة) ونسر لقمان.
(5) الطوفان كما جاء في الكتاب المقدس والقرآن. وسيل العرم الذي نتج عن انهيار سد مأرب في اليمن. وقد القى الجاحظ اضواء على ما يتعلق بالطوفان مثل سفينة نوح وغرابه، والقبائل التي بادت بسببه.
(6) معلومات تاريخية قديمة تتعلق بجرهم وطويس وهرمس وارميا او الخضر ويحيى إبن زكريا وسوس المنتظر، وقير وعيرى، واولاد السعالى، وقحطان وعدنان وقضاعة وحمير وطيء وهاروت وماروت.
(7) في الطبيعة يطرح اسئلة محيرة مثل الماء وتكونه ونضوبه، وعمل الفلك في عالم الارض، وكيف تفرق الناس الى اعراق مختلفة الالوان، وسر الوراثة والشبه بين الاب والابن.
(8) علم الحياة يطرقه باب الجاحظ فيتساءل عن أطول المخلوقات عمرا: الانسان ام الحية ام الضب. ومتى يتوقف النسر عن السفاد والتناسل، ولم لا ينسل البغل.
(9) وعلم الآثار يحتل مركزه من اهتمام الجاحظ، فيسأل عن باقي كعبة نجران، وغمدان، وتدمر، والهرمين، ومأرب، والابلق الفرد في الحيرة ...
(10) اثر الأقليم في البشر، وعلى اي اساس قسمت الارض الى اقاليم، وما هو السبب في اختصاص سكان اقليم بمهنة دون أخرى.
(11) الاوثان ومكانها وزمانها مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ومناة والعزى والغبغب وعائم واساف ونائلة الخ..
(12) الفراسة والفأل والشجم او معرفة الغيب تشغل بال الجاحظ ايضا. فيسأل عن أسرار الكيمياء، والزجر، واسرار الكف، والنظر في الاكتاف، وقرض الفأرة، ودوائر الرأس، والتنجيم، والسبانح والبارح، ودماء الملوك للكلبي، وصرع الشيطان، وتلوث الغيلان الخ.
(13) الاسئلة حول معتقدات الشيعة تدل على شك الجاحظ فيها مثل عنفاء مغرب والشق الاحمر وثور الله في الارض وشعب رضوى وبيض الخفاش والجفر والرجعة والمناسخة والبداء.
(14) الجن وطبيعتهم وعملهم بالناس او علاقتهم بهم وبعض اسمائهم مثل شقلون واهرمن وافردش وابر شارش الخ..
(15) الكيمياء ومسائلها وادواتها وعناصرها يلم بها الجاحظ امثال الفرق بين الطاس والكأس، والاقبية، وصنعة الزجاج، والرخام، وصنع الذهب، والنوشاذر، والاصباغ الخ.
(16) هرمس الحكيم واهتمامه بالفلك، وافلاطون ومخالفته ارسطو اسئلة تدل على اطلاع الجاحظ عليهم.
(17) مساوىء المزاح كثيرة: السخف، التزيد، المكر، الخداع الخ.
(18) الجاحظ يطلب العفو من احمد بن عبد الوهاب لأنه مزح معه او سخر منه.
(19) للمزاح محاسن الى جانب المساوىء. لاحظ جدل الجاحظ. (20) الجاحظ يعمد الى مديح احمد بن عبد الوهاب ليكفر عن اساءته اليه بسخريته، ولكن مديحه جاء ساخرا او مقلوبا مثل مديح المتنبي لكافور الاخشيدي.
(21) لاحظ جمال احمد بن عبد الوهاب وتطبيق مفهوم الجاحظ الجمالي عليه «الاعضاء الموزونة والاجزاء المقدودة مع عدم التفاوت في الاحجام. (راجع نظرية الجاحظ الجمالية في كتابنا «نحو رؤية جديدة لفلسفة الفن) ولكن السخرية تبدو واضحة في قوله مثلا «وما ندري في اي الحالين انت أجمل، وفي اي المنزلين انت اكمل، اذا فرقناك ام اذا جمعناك، اذا ذكرنا كلك ام اذا تأملنا بعضك؟ فاما كفك فهي التي لم تخلق الا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها ويختال بها كل ما صار فيها..» .
(22) العودة الى حديث المزاح والجد برهان على خاصة الجاحظ الاستطرادية التي اتسمت بها آثاره الادبية خاصة.
(23) من شروط التمثيل ان يكون الشيئان متقاربين.
وانواع الخطأ ثلاثة: خطأ الحس وخطأ الوهم وخطأ الرأي. والمعرفة نوعان:
استنباطية وعيانية. (راجع نظريته في المعرفة وشروطها في كتابنا (المناحي الفلسفية عند الجاحظ، نظرية المعرفة) .
(24) الامامة عند الشيعة: يعود الجاحظ الى هذا الموضوع مرة ثانية لأن احمد بن عبد الوهاب كان شيعيا. وتجدر الاشارة هنا الى نبوءة الجاحظ بما آلت اليه الامامة عندهم وهي غيبة الامام الثاني عشر وهو المهدي المنتظر.
(25) يحتج الجاحظ لخاصة الاستطراد في أدبه بقوله ان الناس يملون الشيء الكثير ويستثقلون الطويل وان كثرت محاسنه وفوائده.
(26) الاسئلة حول المتنبي والنبي ودلائل النبوة بحثها الجاحظ واجاب عليها في كتاب حجج النبوة. فليراجع في كتاب رسائل الجاحظ الكلامية.
(27) انتشار الاديان بين الشعوب والقبائل مثل تنصر النعمان ملك الحيرة، وتهود ذي نواس ملك اليمن، وتمجس ملوك سبأ في اليمن.
(28) عودة الى الحديث عن العرافة والسحر عملا بالاستطراد الجاحظي.
(29) الاسئلة حول الذاكرة وعوامل النسيان تدل على اهتمام ابي عثمان بعلم النفس وقضاياه. وينبغي ان يكون قد بحث هذا الموضوع في بعض كتبه الضائعة.
(30) علم الرياضة لم يهمله الجاحظ وينبغي ان يكون قد الف فيه كما نستشف من اسماء كتبه الضائعة. وفي كلامه اشارة الى مصادر هذا العلم: الحساب اخذ عن الهند، والجبر ساهم به العرب لأن اسمه عربي.
(31) فن الموسيقى احبه الجاحظ ولكن لم يبلغ شهوته منه لماذا؟ ومن اعلامه فيثاغورس واقليدس وغيرهم. وممن اشتهر في الطرب والموسيقى الجرادتان وابو طيبة والسرباب وحبابّة وسلامة وعزة الميلاء وجميلة الحدباء الخ..
يذكر الجاحظ اسماء عدد من الكتب المعربة التي لم يعرف اصحابها امثال كتاب كلوريد الضخم (الف مجلد) المجوسي الاصل، وكتاب الطرق الرومي الاصل، وكتاب اسرار الهند، ولعبة الشطرنج، وكتاب كليلة ودمنة.
(32) موضوع المعرفة حظي باهتمام الجاحظ كموضوع مستقل. ويبدو الجاحظ حائرا في تحديد مركز العقل هل هو الدماغ او القلب. ودور الحواس في المعرفة.
(راجع رسالة الجوابات في المعرفة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية) .
(33) علم البصريات والمرائي (جمع مرآة) لم ينسه الجاحظ. وهو يسأل عن طبيعة الصورة الثابتة في المرأة، هل هي عرض او جوهر وحقيقة او تخييل.
(34) الالوان وحقيقتها بحثها الجاحظ في كتاب الحيوان. وهو يسال عن الوان الكواكب، وعلاقة الاشكال بالالوان. والوان القمر وشبهه بالأرض.
(35) القيافة او علم تتبع الأثر، في التراب والجو والماء، ومن اشتهر بها من بني مدلج وخثعم وخزاعة وقريش.
ويطرح اسئلة على طبيعة الظلام.
(36) أسئلة فزيولوجية حول وجود وعدم وجود بعض الاعضاء الداخلية في اجسام حيوانات معينة كالفرس الذي لا طحال له، والبعير بلا مرارة، والسمكة بلا رئة الخ. وقد وردت هذه المسائل في كتاب الحيوان للجاحظ.
(37) عودة الى الشيطان والسحر مرة ثالثة دليل على شك الجاحظ في الموضوع، وعلى نهجه الاستطرادي.
(38) الاسئلة التي يطرحها هنا على عجائب الحيوانات شكلت الغرض الاساسي في كتابه الحيوان. وقد كان كلفا باستقصاء تلك العجائب لاظهار حكمة الله في خلقه.
(39) يخبرنا الجاحظ ان جميع هذه المسائل قد بحثها في كتبه المختلفة ومن يقرأها يعثر على الاجوبة المطلوبة. ويحث على قراءتها.
(40) هذه المجموعة من حكم الفلاسفة تبرهن على اهتمام الجاحظ بالفلسفة اليونانية وموضوعاتها.
(41) لا ينسى الجاحظ ان يمتدح كتابه ويبين فوائده بايجاز. فهو على الرغم مما فيه من اخلاط واضداد وسخرية واستطراد ينفع في مساءلة العالم وممازحة الظريف ومدارسة المتعلم، ثم هو يشحذ الذهن.
(42) ان العقل بحاجة الى شحذ اكثر من السيف. هذا الرأي ابداه الجاحظ اكثر من مرة في كتبه، راجع حجج النبوة، والمعرفة الخ ...
(43) في الخاتمة يعتذر الجاحظ من الاطالة والافتنان والجدل والخطأ بسبب علة حدثت او سهو اعترض او شغل منع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire